هل تسرّع الرئيس جورج بوش في تحديد هدفه الثاني، العراق بعد أفغانستان؟ هل كان خطاب محور الشر، نقطة انطلاق وخريطة درب للحروب الأميركية المقبلة؟ أو ان خطاب حال الأمة، أو الاستراتيجية الأمنية القومية شكلتا الهيكلية الأساسية للأهداف الأميركية؟ هل كبّر الرئيس حجره، بشكل أصبح عاجزا عن قذفه إلى المسافة التي يريدها؟ لماذا يقف الرئيس بوش يوميا يدل بسبابته متوعدا، مهددا كل من عصاه؟ هل دخلت أميركا في دوامة الآلية التي يعمل بها مجلس الأمن، وأصبحت عاجزة عن تخطيها؟ إذا كان كل هذا صحيحا، وإذا كانت أميركا تعتبر نفسها الأقوى في العالم، لماذا إذا باشرت نشر قواتها في الخليج قبل تأمين الشرعية الدولية لهذا الانتشار؟ وما معنى إذا الذهاب إلى مجلس الأمن، وعدم العمل بقراراته؟ وهل أخطأت أميركا باعتماد سلوكين في الوقت نفسه؟ الأول، عسكري بحت، والثاني سياسي دبلوماسي.
وإذا هدفت أميركا فقط من نشر قواتها حول العراق، إلى إكراه الرئيس صدّام على تسهيل عمل المفتشين. فهل يستلزم هذا الاكراه هذا الحجم من القوى؟ لذلك يقول المحللون الاستراتيجيون، ان هذا الاستثمار الأميركي الكبير في منطقة الخليج، يجب أن يكون مبنيّا بحسب العقلانية الاستراتيجية، على تحقيق أهداف تفوق قيمتها بكثير حجم هذا الاستثمار. هل يلوم الرئيس بوش وصقور إدارته الجنرال كولن باول على سياسته التي تعتمد على التعددية الدولية؟ فكولن باول يعتقد أن استشارة العالم ضرورية. والتفرّد سلوك يُعتمد إذا لزم الأمر وكانت الأهداف القومية على المحك. أما الآخرون في الإدارة الأميركية، فإنهم يعتقدون، أن التفرد ضروري وأساسي باعتباره سياسة كبرى. أما استشارة العالم، فهي ممكنة ومحتملة إذا لزم الأمر وعلى سبيل التسوية ورفع العتب فقط.
هل شعر كولن باول أنه أخطأ عندما أخذ الرئيس بوش إلى مجلس الأمن، ولم يعد قادرا على إخراجه راضيا؟ ممكن. من هنا هذا الموقف الأخير المتشدد للجنرال الوزير. كيف سارت الدبلوماسية والاستراتيجية الأميركيتان في الفترة الأخيرة؟
اتبعت أميركا مسلكين لمقاربة الموضوع العراقي، هما:
الأول، سياسي مع إظهار للقوة: بعد أن انتهت أميركا من أفغانستان، التفتت إلى العراق باعتباره هدفا محتملا. أرادت ربطه بتنظيم القاعدة، لكنها فشلت. اتهمته بأنه يسعى إلى امتلاك السلاح النووي، وأنه يملك الكثير من أسلحة الدمار الشامل. وهو قد يمرر هذه الأسلحة للتنظيمات الارهابية، التي تعمل للقضاء على الكفّار وخصوصا أميركا. بدأت أميركا بإظهار قوتها العسكرية في العراق، عبر انتشار تدريجي متصاعد لترسانتها العسكرية الاساسية. دار النقاش داخل الإدارة الأميركية حول السلوك المتبع. أراد الصقور الذهاب إلى الحرب، من دون الشرعية الدولية. شدّد باول، على الذهاب إلى مجلس الأمن والتشاور مع الحلفاء والأصدقاء. فعلا، ذهبت أميركا إلى مجلس الأمن واستحصلت على القرار 1441، ودخلت في دوامة التفسيرات لهذا القرار. وهو عاد مرة ثانية إلى هذا المجلس لتقديم محاضرة طويلة عن انتهاك العراق للقرار 1441. لكنه لم يوفق لأن تقرير المفتشين الأخير أثبت عدم صحة ادعاءاته. هاجم الرئيس بوش مجلس الأمن مرارا، وهدد بالذهاب إلى الحرب منفردا. قادت فرنسا وألمانيا الحملة المضادة للحرب بطريقة شرسة. وتخيّل العالم أن الديمقراطيات ستقاتل بعضها بعضا، وذلك بعكس ما نادى به الفيلسوف «كانت» عن السلام المستمر Perpetual Peace. انقسمت أوروبا على بعضها بعضا شرقية ضد غربية. وتعددت المقالات الأوروبية التي تؤيد أميركا. انقسم الحلف الأطلسي (الناتو) على نفسه، منتهكا شرعيته حول المساعدة المتبادلة فيما بين الأعضاء (تركيا). سار العالم ضمن مظاهرات تندد بالحرب، بلغ عدد المشتركين فيها أكثر من 6 ملايين نسمة. احتار العرب في اتخاذ الموقف المناسب. أكثرهم مشارك ومسهم في الحرب. عدد قليل ممانع لأهداف خاصة. والبعض الآخر. منعزل، محتار، خائف على مصيره في حال ربحت أميركا الحرب بسرعة. انقسمت الجامعة العربية على نفسها (أصلا مفتتة). فهي ان اجتمعت، ستكون عاجزة عن تغيير الوضع. وإذا لم تجتمع، فإنها ستتهم بالتقصير. وفي الحالين، تبدو النتيجة كارثية. عانت أميركا ولاتزال تعاني من مشكلات أساسية مع بعض الدول المهمة لحربها والمحيطة بالمسرح العراقي. تأتي كل من السعودية، وتركيا في قمة هذه الدول. الأولى تمانع بشراسة، والثانية تريد ثمنا مرتفعا.
الثاني، عسكري بحت مع استمرار للدبلوماسية: في الوقت الذي استمرت فيه الدبلوماسية، ظلت أميركا تنشر خيرة قواتها حول العراق. فالطوق العسكري تقريبا اكتمل. وبتنا نرى العالم العربي مطوقا، ومُحتوى على غرار ما كان عليه الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. وخلقت أميركا لنفسها البدائل العسكرية. فهي نقلت مركز قيادتها العسكرية من السعودية إلى قطر. وهي موجودة في: «إسرائيل» والأردن ومصر وجيبوتي والصومال واليمن وعمان والسعودية والإمارات وقطر والبحرين والكويت وتركيا. وتابع الرئيس بوش استدعاء الاحتياط. كما حشد 5 حاملات للطائرات، ثلاث في الخليج، وواحدة في البحر الأحمر، وأخرى في المتوسط. وأصبح ينتشر في محيط العراق أكثر من 150000 جندي أميركي من الأسلحة والاختصاصات كافة، هذا عدا القوى الانجليزية والمقدّرة بـ 30000 وحاملة للطائرات. لكن الملفت إلى النظر هو إرسال فرنسا حاملة طائراتها «شارل ديغول» إلى المتوسط. فهل يفسر هذا الأمر على أنه إظهار للقوة، أو أنه تدبير احترازي في حال قررت فرنسا المشاركة في الحرب. لكن الأكيد أن وجود الحاملة هو ليس للدفاع عن العراق وشعبه؟ سؤال برسم المستقبل.
إذا يبدو الوضع الحالي كالآتي: القوات الأميركية جاهزة لبدء الحرب على العراق. وفي الوقت نفسه ترتفع الاصوات المعارضة للحرب التي تقودها فرنسا بشراسة. هدد الرئيس شيراك باستعمال حق الفيتو، كذلك الامر لمحت بصوت خافت روسيا. ويقول البعض، ان الرئيس شيراك دمّر كلّ الجسور مع أميركا وذلك قبل عبورها، وهذا خطأ استراتيجي كبير وخطير. وأصبح من الحيوي ان يجد الرئيس شيراك أو ان يستنبط استراتيجية جديدة للخروج من مأزقه. وهو سيدفع ثمنا باهضا فيما بعد لأنه لم يترك «للصلح مكانا». في ظل هذا الوضع المتأزم، هل أميركا في ورطة الآن؟ وما خياراتها؟
نعم أميركا في ورطة الآن، لكن لديها خيارات متعددة فماذا عنها؟
هي في ورطة لأنها لجأت إلى مجلس الأمن باعتباره مرجعية دولية، وتريد في الوقت نفسه ان تعلب لعبتها الخاصة. فإذا تطابقت قرارات المجلس مع اهدافها، رضيت وذهبت إلى الحرب. وإذا أتت القرارات معاكسة، اتهمته بالعجز وذهبت منفردة. وفي الحالين هي في مأزق. لأن الحرب حتى ولو كانت مشرعنة، هي عمل ممقوت. فكيف إذا كانت حربا لقيطة لا سند شرعي ودولي لها؟ ماذا عن الخيارات؟
1- ان تقتنع أميركا ان الحرب عمل مقيت، فتجمع قواها وترحل عن المنطقة. وتسلم زمام الامر إلى المرجعية الدولية، وتترك المجال إلى الدبلوماسية. هل هذا معقول؟ بالتأكيد كلا. الانسحاب قد يعني ان أميركا مخطئة، والرئيس صدام حسين مصيب. فتبدو أميركا ضعيفة في نظر العالم، وخصوصا بن لادن. الانسحاب قد يعني ان الرئيس صدام حسين قد حقق نصرا على الشيطان الأكبر. وانه من الممكن إخراجها من المنطقة ككل. الانسحاب قد يجعل الاصدقاء العرب المساهمين في معركتها في وضع حرج. فتبدو جبارا من دون صدقية، لينعكس هذا الوضع السلبي على اماكن اخرى في العالم تنتشر فيها القوات الأميركية. اذا انسحبت أميركا من الخليج، فقد يعني هذا الامر انسحابها من العالم ومشكلاته ككل، لتعود إلى انعزاليتها التقليدية. وهذا غير ممكن بالتأكيد.
2- ان تنتظر قرار مجلس الأمن المقترح عن استعمال القوة. الوقت يعمل ضد أميركا. فهي تريد قرارا سريعا، ملزما للعراق، ويشكل منفذا لاستعمال القوة. لكن المعضلة الكبرى تبدو من خلال هذا الوضع: هل ستستعمل فرنسا حق الفيتو اذا لم تقتنع، أو تأخذ حصة كما تريدها هي؟ هي تعهدت باستعمال هذا الحق، وهي ستستعمله، وإلا بدا الرئيس شيراك مهرجا خفيفا، وإذا امتنع عن التصويت فهو يكون اهدر حقا (الفيتو) مهما جدا من دون مقابل أو ثمن. ويكون بذلك فتح الباب الأميركي للحرب وشرعنه. إذا كان الوضع كذلك، فهل سيذهب الرئيس بوش إلى مجلس الأمن وهو يعرف ان هناك «فيتو» فرنسيا ينتظره؟ قد يذهب من دون الاخذ بقرار المجلس اذا اتى سلبيا، وهو كان قد عبر عن ذلك في كل مرة هاجم فيها الامم المتحدة.
3- ان تخفف أميركا وجودها العسكري تدريجيا، مع استمرار الدبلوماسية، على ان تنتقل لاحقا إلى استراتيجية الاحتواء الذكي. في هذا الإطار، عبر السيناتور جون ماكين منذ فترة عن صعوبة تنفيذ هذه الاستراتيجية فقال، ان احتواء الرئيس صدام يستلزم توافر اربعة عناصر اساسية هي: حلفاء يُتّكل عليهم. اهداف واضحة محددة، تقوم على استراتيجية ايضا واضحة. توافر العوامل الاقتصادية والعسكرية لفرض الاحتواء. وأخيرا وليس آخرا، الارادة السياسية للتنفيذ. بحسب ماكين، لا تتوافر كل هذه العناصر، من هنا ضرورة ضرب العراق وتغيير النظام.
4- تأجيل الهجوم لاعطاء المزيد من الوقت للدبلوماسية. كأن تنسحب أميركا وتعود لاحقا (الشتاء المقبل) للحشد. ليست الامور بهذه السهولة والخفية. فالانتشار والانسحاب لهذا الحجم من القوى ليس بالامر السهل وعلى الاصعدة كافة. على صعيد المعنويات، على الصعيد اللوجستي، المالي، وخصوصا على الصعيد السياسي. أميركا تعهدت وعليها التنفيذ. لا يمكنها ان تتراجع لأن التراجع مكلف جدا. كما انه لا يمكن لأميركا ابقاء القوات منتظرة إلى ما لا نهاية، بانتظار توافر الظروف السياسية. فهذا مكلف جدا. فالجيش المنتشر هو في غالبيته من الاحتياط الذي ترك عمله في أميركا. والجيش الاميركي يعتبر جيشا متزوجا (نسبة عالية متزوجة)، وهذا الامر قد يؤثر سلبيا على الاصعدة الاجتماعية. كما ان الانتظار قد يجعل أميركا اسيرة لعبة الدول الكبرى والصغرى في مجلس الأمن، وهي لا تريد ذلك بالتأكيد.
5- ان تذهب أميركا إلى الحرب مهما كان قرار مجلس الأمن. وهذا الامر هو الأكثر احتمالا. فهي لا تعتبر نفسها متفردة، لأنها ذهبت إلى مجلس الأمن للتشاور معه وفقدت بذلك المبادرة السياسية. كما انها انتظرت كثيرا وفقدت عامل المفاجأة الاستراتيجية. وهي فعليا أصبحت في مراحل متقدمة من الحرب. فالحرب النفسية قائمة منذ فترة. والقوات الخاصة هي حتما على الاراضي العراقية تحضر مسبقا للحملة الجوية، ولتقدم القوات البرية. وهي نشرت قواتها في الابعاد الاربعة في وضع قتالي. كما انها تخاصمت مع العالم كله تقريبا بسبب العراق.
فهل التراجع سيجعلها في حال افضل؟ طبعا لا
العدد 178 - الأحد 02 مارس 2003م الموافق 28 ذي الحجة 1423هـ