العدد 178 - الأحد 02 مارس 2003م الموافق 28 ذي الحجة 1423هـ

أليس التاريخ هو الحاضر الوحيد؟

غـازي القصيبي يتساءل في سلمى...

الوسط - حسام أبواصبع 

تحديث: 12 مايو 2017

قبل سنوات قليلة شكا الأديب الشاعر غازي القصيبي في قصيدة له من أنه أصبح جدَّا، واستبطن في شكواه فرحة شفيفة من نوع خاص شاء أن يخفيها ولكن هيهات... وعلى رغم أن الشكوى في القصيدة المذكورة حملت عتابا واضحا على عجلة الزمن التي تدور بتسارع واضح ما جعلته يكون جدَّا، إلا أن القصيبي في روايته الأخيرة «سلمى» واصل عتابه على الزمن ولكن بطريقة مكثفة ومعقدة، وبطريقة اختفى منها تماما ما يمكن أن ينطوي على حس ساخرٍ فَكِهٍ، بقدر ما كانت التجاذبات ألمرة هي التي تتلقف العمل وتقذف به ذات اليمين وذات الشمال، وتغوص به في أرجاء التاريخ وعلى جنباته، وفي قلب انكساراته.

القصيبي أهدى روايته سلمى إلى حفيدته «سلمى» ذاكرا أن هذه الرواية تحمل شيئا من حكايات أمتها الكبيرة، وفي الواقع فإن هذه الرواية ذات الصفحات القليلة تحكي الكثير عن هذه الأمة طولا وعرضا، من خلال سلمى راوية الرواية، ومؤشر مذياعها الذي ينقل لها الحوادث والأخبار، والخيبات العربية تباعا منذ سقطة المتنبي، وحتى خيبة يونيو / حزيران 67 ، إلى كارثة شارون، وما بين هذه الحدود الزمنية من قرامطة، وتتار، وصراعات بين ملوك الطوائف الأندلسية، ومعركة حطين العلامة الوحيدة الوضاءة في هذه الرواية، إلى أحاديث القلب والنجوى والشعر.

سلمى امرأة عجوز خنقتها الخيبات المتقادمة، تطلب على الدوام من ابنها الأكبر أن يأتي لها براديو ترانسستور جديد مطلع كل شهر، ممنية النفس أن يبث الراديو الجديد أخبارا تسعدها، تدخل إلى نفسها طلاوة لم تعرفها طوال حياتها، ولكن كالعادة كل راديو سواء كان كبيرا أو صغيرا، مصنوعا في هذه الدولة أو تلك، يتفنن في إذاعة النكبات والكوارث التي أثخنت جسد هذه الأمة، وقلب هذا الوطن الكبير منذ أمد بعيد، وما أن تدير المؤشر حتى تتلقف أذنها قصة من قصص الارتكاسات العربية في حاضرها أو ماضيها. وسلمى التي تعيش بين إغماض وصحو، وفي الهزيع الأخير من العمر، إذ تختلط الحوادث والوقائع وتتشابك معا مشكلة فسيفسائية متنوعة تذهب كلها صوب إعادة تذكيرنا بخريطة الفشل، في لحظات تقاس بالأيام والشهور - لمن أراد إحصاء - والذي لم يطل كثيرا بعد أن بدأت بإدارة مؤشر الانكسارات.

كما أن سلمى لم تكتف في الرواية بتجريب أجهزة الراديو المختلفة (الألمانية والروسية والهولندية) أو الجديدة والأكثر جدة، أو مجرد تحريك المؤشر في هذا الاتجاه أو ذاك، بل إنها تتجاوز حدود الاستماع من بعيد، لتدخل في صلب الحادث، وتصبح أحد ركائزه، وليست مجرد شاهد مكتوف الأيدي يراقب من بعيد... فسلمى هي مديرة المخابرات العامة في جهاز جمال عبدالناصر وهي التي تنبأت بالهزيمة النكراء، ورسمت له السيناريو الذي سيسوغ لـ «إسرائيل» إلحاق الهزيمة به، ثم هي الشاهد الأكثر التصاقا على أفول الأندلس وسقوط غرناطة، ثم هي محبوبة المتنبي التي أنكرها التاريخ، وتجاهلها التدوين، وهي السر الدفين الذي قبر مع المتنبي، تظهر سلمى في صحبة المتنبي من خلال أوبريت منصور الرحباني عن أبي الطيب، لتكون كاشفة هذه المرة عن السر المستودع في بطن التاريخ الذي قضى المتنبي من أجله، وليس كما يذاع عن قصيدة «الطرطبة» بحسب الرواية الرسمية، ثم يكون حضورها مناضلة تتنكر وتترصد الأخبار في هيئة مخفية على الفرنجة، فيكون مجموع ما تحصل عليه سببا في انتصار حطين... ثم تحرك سلمى قلب أمير الشعراء أحمد شوقي، وفؤاد محمد عبدالوهاب، وتلف حبائلها حولهما، من دون أن يفتضح أمرها، تلهب مشاعرهما في حين تجر أم كلثوم خيبتها، وتفشل في إيصال غرامها. وأخيرا سلمى مجندة إسرائيلية، يوزع شارون ابتساماته عليها، وترد له ابتساماته بمثلها حين تحتضنه وتكبس على الزر الذي يحوله ويحولها أشلاء تتطاير.

هذه هي سلمى إذا، إنها الحاضرة في كل المراحل القاتمة، مرشدة ودالة على طرائق الخلاص، حاكية وناثرة لأوجاع الأمة في تجلياتها القاسية، وفي لحظاتها الشعرية الدفيئة... وما ان تصل إلى الاستماع للإذاعة التي تبث خطب شارون العصماء ثم موته، حتى تغمض إغماضتها الأخيرة، وكأنها اكتفت مما تتناقله الإذاعات... ولم يعد لاستمرارها في الحياة معنى... ويكشف لنا ابنها في حديث مقتضب مع أحد المعزين في وفاة سلمى، أنها ألفت كتابا في التاريخ من أربعة أجزاء، وأنها في أواخر أيامها كانت تخلط بين التاريخ والواقع، ثم تأتي القفلة بجملة... أليس التاريخ هو الحاضر الوحيد.

إن هذه الرواية وعلى رغم بساطتها الأسلوبية، وقلة صفحاتها، وانسياب حوادثها وخطابها تكتنز، حقيقة، قارة من الدلالات والمعاني المحتملة، وقد ينظر إليها القارئ باستسهال، لكنها في الواقع على غير هذه الشاكلة، فبعض الجمل الاعتراضية، وبعض العبارات التي قد تمر سريعا، من دون أن يتوقف القارئ عندها جديرة بزحزحة الثقة التي يتوهمها في هذه الرواية الجميلة، التي هي بقدر ما تشعر القارئ بسهولتها وانسيابها، إلا أنها تنصب له أفخاخا تجعله يطرح الأسئلة باستمرار، فهل سلمى هي هذه الأمة التي لم يتعظ بها أحد، ولم ينصت إليها أحد طيلة هذه القرون، وهل هي الملهمة التي أنكرها الجميع... أم هي المرأة في صورتها الحكيمة البطولية الملهبة للمشاعر، أو المخلصة التي تملك مفاتيح الانفكاك والانعتاق من جبروت الهزيمة، وإذلالها... إن سلمى التي تنثال عبر الأثير ليست كتلك التي تحرك الموجات الإذاعية، فهل الإذاعة هي لعبة سردية ومحرك حادث، ومجرد ذريعة - فنية - لاستحضار ذاكرة تاريخية أولا بمحتوياتها، من أمجاد عابرة وهزائم متوطنة وقصص غرام مقطوعة الأوصال، وتقديمها بصيغة فيها احتشام أحيانا، وانفلاش في مرات عدة.

إن كل الاحتمالات السابقة أو الأخرى غير المثبتة تحتملها هذه الرواية وأكثر من ذلك. وما إصرار سلمى وإلحاحها على أن يأتي ابنها في كل زيارة لها براديو جديد، إلا أحد المفاتيح الممكنة للإحاطة بشيء من دلالة هذه المتاهات، وما تقريرها وحكمها في موضع آخر على أن الراديوهات روسية الصنع هي الأكذب من بين كل ما جربت واختبرت، وقطعها عهدا على نفسها بألا تستمع للأخبار من راديو روسي الصنع، ربما لتذكيرنا بخبراء الاتحاد السوفيات... وهكذا. فهل هذيانات سلمى، وحضورها بهذه الوجوه العدة، المتطاولة في القدم والحديثة في آن قناع لمجريات الأمور على هذا الفضاء المترامي الأطراف والصحارى، أم محاولة إعادة تدوين الفشل بطريقة أخرى. فقد تكون سلمى أحد الشهود، لاسيما أنها باحثة في التاريخ، وأن ذاكرتها المعتقة التي أصابها العطب بحيث أقامت حواريتها الخاصة بين ماض غير تليد، وحاضر بائس مقيت...

إن التاريخ في اعتراكه، في هذا الخليط العجيب، والمزج الهائل، لعبة استطاع القصيبي بلغته المطواعة الهينة أن يقود من خلالها قارئ هذا العمل بهدوء، ومن دون ضجيج إلى إثارة سؤال الواقع عبر شواهد التاريخ والعكس بالعكس، وان فهم هذا الواقع الموغل في التردي تفسيره حاضر في تاريخ الصراعات.

غازي القصيبي. سلمى. بيروت، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، 2002، 72 صفحة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً