الافتراء على الخصم، تشويه الحقيقة، ابتداع الاكاذيب والشائعات المغرضة واختراع الاحداث... منذ القدم يشكل الكذب عصب الحروب ليصبح تقليدا لا تتوانى الحكومات المعاصرة عن انتهاجه في ما بات يسمى «الاعلام الحربي» الذي يجيز للطرف المحارب «قصف» خصمه بكل انواع الاكاذيب الاعلامية. وتشكل الحرب المحتملة على العراق اليوم نموذجا جديدا اكثر تطورا هذه المرة واكثر «إقناعا» طالما أنها ترتكز أساسا على مبرر ملموس هو «مواجهة الإرهاب» الذي تجلى في اعتداءات 11 سبتمبر في صورة تجاوزت كل السيناريوهات الخيالية وكل القدرات على ابتداع الأكاذيب وترويجها عبر الإعلام.
هذا الموضوع تناولته الصحافة الفرنسية مؤخرا، فأفردت له مجلة «ماريان» ملفا كاملا في عدد الأسبوع الأول من شهر فبراير ضمنته أمثلة عن أكاذيب إعلامية كثيرة لتبرير حروب عدة عبر التاريخ.
«في زمن الحرب، الحقيقة شيء نفيس ونادر لدرجة انه يتوجب دوما تغليفها بطبقات عدة من الأكاذيب». هذا ما قاله ونستون تشرشل الذي لا يلومه أحد اليوم على حجبه حقيقة احتمال انتصار القوى النازية على المملكة البريطانية التي كان جيشها أصبح من دون عتاد عسكري ثقيل واضعف من ان يواجه جحافل النازيين. إلا انه على الأقل، اعترف بحق البريطانيين في معرفة الحقيقة في وقت لاحق، عل خلاف الحكام الحاليين، حتى الديموقراطيين منهم، الذين غالبا ما يستسلمون لاغراء تزوير نوايا الخصم وتحويل الاعتراضات الداعية إلى السلام إلى جرائم ضد الدولة. فعملية «حشو الدماغ» (وهو التعبير السائد منذ العام 1914- 1918) تستجيب لمبادئ متعذر مسها: مثل أن يثبت المعتدي انه لا يفعل سوى الدفاع عن حقه المشروع وان حربه ليست سوى لتجنب أي غزو محتمل لأرضه. هكذا كان اجتياح ألمانيا النازية للاتحاد السوفيتي العام 1941 النموذج الكامل في هذا المجال. حيث «باع» مسؤولون ألمان الرأي العام الألماني خبرا مفاده أن الجيش الأحمر يستعد لاجتياح الرايخ... وبالتالي لابد من الدفاع عنه. وكان الخبر مجرد أكذوبة لأن ستالين كان مصرا على احترام اتفاقية عدم الاعتداء التي وقعها مع هتلر صيف 1939 حتى اللحظة الأخيرة... لكن الالمان برروا الحرب بقولهم انها تفتح المجال امام عهد جديد من السلام العالمي... مثلما فعل الرئيس جورج بوش الأب عشية حرب الخليج حين أكد انه في حال الانتصار على صدام، فان النظام العالمي سيرتكز على احترام القانون الدولي.
لكن والى جانب ضرورة شن الحرب بهدف تحقيق «أهداف سامية سلمية عالمية» والدفاع عن النفس، لابد من تفاصيل إضافية لتعبئة الرأي العام: فبالإضافة إلى كونه يحضر لغزو أراضي الغير، فان جندي الخصم يغتصب الفتيات وينكد بالعجز والأطفال، ينتهك المقدسات ويرتكب الفظائع... وما إلى ذلك. وهكذا ادعى مدونو أخبار الحملات الصليبية في نهاية القرن الرابع ولتجيش الرأي العام، أن الأماكن المقدسة تعرضت للتدنيس وان الكنائس تحولت إلى مساجد أو إسطبلات وان مسيحيي الشرق يتعرضون للإبادة... في وقت كانت فيه القدس بيد الإسلام منذ العام 638 وكانت الديانة المسيحية فيها مسموح بها كما في كل مكان من الراضي الإسلام. لكن الحقيقة كانت أن البابا غاوربين الثاني كان مسرورا لاستطاعته التخلص من بعض الأمراء المسيحيين المثيرين للشغب من خلال إرسالهم إلى القتال من اجل كسب خلاصهم. كما انه كان ممن شأن هذه الحملة، كما الحال اليوم بالنسبة إلى جورج دبليو بوش، أن تجعله الزعيم الأوحد للمسيحية والمنقذ لها.
في حروب كثيرة عبر التاريخ، كانت الإنجيلية المسلحة الغطاء لشهوة القوى الكبرى لضم الدول الصغرى. إلا أن بونابرت أوجد بعد سبعة قرون، مبررات اكثر منطقية لدفع جنوده للهجوم على إيطاليا حين قال: أيها الجنود، لا تملكون أحذية ولا ثيابا ولا خبزا... ومخازننا فارغة في حين أن مخازن العدو متخمة بكل شيء... فأليكم يعود أمر الاستيلاء عليها». وكانت حالة فريدة في التاريخ أن يعلن قائد حربي بمثل هذا الوضوح نيته الاستيلاء على أراضي وثروات الخصم... إلا أن بونابرت ، مهندس أسطورته الخاصة بنفسه، لجأ إلى الإعلام الحربي كوسيلة لإشاعة سمعة حسنة تبرر له أعماله وتصفها بالبطولات... فكان مراسلو أخبار حملاته يكتبون عنه بصورة تعطي مصداقية للمواهب التي منحتها العناية الإلهية لهذا القائد التاريخي. فقالوا مثلا: «بونابرت يطير كالبرق، يضرب كالصاعقة. انه في كل مكان. يرى كل ما يحدث». وكان يعرف أن التفاصيل في مثل هذه الحالات مهمة جدا وهي التي تمنح قوة الاستمرار والقتال لجنوده، وهي التي تؤكد للرأي العام مدى قوته وعظمته... في حين أن الحقيقة - كما كشف عنها في وقت لاحق والتي تشكل اليوم مثار جدل واسع في فرنسا حول صحة «قيادية وعظمة نابليون بونابرت» - أن حملات نابليون كانت تفتقد إلى المبرر كما إلى الأهداف الواضحة وان جنوده عانوا الآمرين كما عانوا الذل والجوع وقضى معظمهم من البرد. وهكذا علمت أجيال فرنسية في ما بعد أن غزو بونابرت للجزائر عام 1830 كان بسبب تعامل حاكم الجزائر مع سفير فرنسا لدى الجزائر بغير احترام... وأن الأمر كان يتعلق بمسألة أموال مخصصة لشراء القمح الجزائري. فكان ذلك المبرر للهجوم على سيدي فروش ومحاصرة قبائل عبد القادر المتمردة في كهوفها حتى الموت اختناقا.
كذلك، وبعد أربعين سنة، كان «التعامل بغير احترام» السبب لحرب فرنسا ضد بروسيا، حين خضع نابليون الثالث لشهوة الانتقام «للكرامة الوطنية» بعد أن زور المستشار الألماني بسمارك رسالة جوابية ردا على رسالة من نابليون تتعلق بموقف برلين من ترشيح أحد الأمراء لعرش إسبانيا. فكتب المستشار يقول: «إن الملك رفض استقبال سفيركم وابلغه أن ليس لديه ما يقوله حول هذا الأمر».
وبالنسبة للولايات المتحدة، فهناك «طريقة اميركية للحرب». فكانت حملة طرد اسبانيا من كوبا «أو ما سمي بـ «الحرب الصغيرة الرائعة» بعد تدخلات للجيش الاميركي في جنوب ريو غراندي تجاوزت 103 تدخلا من العام 1795 الى 1895. وعرف فيما بعد من خلال وثائق السي أي أي، أن انفجار سفينة «ماين» الأميركية التي كانت تتجه إلى هافانا لم تكن من عمل «العملاء» الاسبان، كما ادعت الصحافة الأميركي، بل بسبب انفجار الذخيرة الحربية في السفينة نتيجة وجودها بقرب المولد البخاري.
ومع السنين تطورت اساليب الترويج للحرب، فأصبحت لأسباب «فكرية» و«ثقافية»، ودخلت أقلام تصف الخصم بأقصى الصفات الباعثة على الاشمئزاز. ففي الحرب الألمانية الفرنسية بين 1914 و1918، كثرت الروايات الإعلامية من قبل الطرفين تصف كيف قطع الجنود الألمان لأصابع الأطفال البلجيكيين وكيف انهم ، أي هؤلاء الجنود، يأكلون المقانق المصنوعة من نشارة الخشب...
وجاء الحكام الديكتاتوريين ليحسنوا بشكل افضل من عمليات «حشو الأدمغة» عملا بنصيحة احد وزراء هتلر القائلة إنه «كلما كانت الكذبة أكبر كلما كان حظها أفضل بالتصديق». وجاء اجتياح بولندا ليتيح لهتلر تطبيق هذه النصيحة. فلتبرير دخول الفرق الألمانية إلى وارسو، لفق مساعدو هتلر خدعة كبيرة. فارتدى بعض عملاء النازية الزي العسكري البولوني ليهاجموا في الأول من سبتمبر 1939 مركز جمارك المانيا ومحطة راديو على الحدود بين المانيا وبولونيا . وإثباتا للفعل، تركت في المكان بعض الجثث «المستعارة» من قبل القوات النازية. وكان التدبير لاقناع المترددين في ألمانيا بان الرد على «الاعتداء البولوني» كان الدافع للفوهرر لاعلان الحرب العالمية الثانية.
بعد 1945 انطلق الروس والأميركيون في حروب إعلامية ساخنة جدا. فكانت حرب كوريا التي أتاحت للاستخبارات السوفيتية القيام بأفضل مناوراتها الاعلامية. حيث أطلقت موسكو إشاعة عن قيام القائد الأميركي في كوريا الجنرال ريدغاوي بانزال جرذان مصابة بفيروس الجدري بالمظلات على سكان كوريا الشمالية!! وحين وصل الجنرال المزعوم إلى باريس عام 1953 ليستلم رئاسة حلف الأطلسي، استقبله آلاف المتظاهرينمن غير الشيوعيين، بمناداته «ريدغاوي، ارحل ايها الطاعون». وطيلة نصف قرن، تنافست استخبارات الخصمين الاميركي والسوفيتي في ابتداع مختلف الاكاذيب والحملات الاعلامية المغرضة والمشوهة للحقائق.فاستخدمت الاستخبارات السوفيتية الكا جي بي وسائل اعلامها في الشرق لتشيع ان السي أي أي هي التي اغتالت الرئيس الاميركي جون كندي وان فيروس السيدا تسرب من احد مختبرات الجيش الاميركي. واشاعت السي أي أي من جهتها روايات عن سلوك مبتذل وملتبس لفيدل كاسترو ورواية اخرى عن تورط موسكو في محاولة اغتيال البابا.
وفي 1954، أشاعت الصحافة الأميركية بدعم من السي أي أي عن وصول شحنة ضخمة من الأسلحة السوفيتية إلى غواتيمالا. وشكل الأميركيون فرقة مرتزقة في هندوراس ليرسلوها لـ «تحرير غواتيمالا من الطغيان الماركسي». والأمر نفسه بالنسبة إلى سان دومينيك عام 1964 حيث تم طرد الرئيس المنتخب خوان بواش «الشيوعي السوفيتي» في رأي أميركا من قبل قوات المارينز التي هرعت إلى الجزيرة «لإنقاذ الرعايا الأميركيين». وكذلك الأمر بالنسبة إلى مصدق الرئيس الإيراني الإصلاحي «المتهم» بتأميمه الموارد النفطية لبلاده. والذي اتهم بأنه «مجنون» و«عميل لموسكو» وتم إسقاطه بانقلاب دبره كيم روزفلت الأميركي. في كوبا وبعد فشل عملية الإنزال الأميركي في خليج الخنازير ادعى جون كندي أن السي أي أي لم تتدخل أبدا وان المسألة كانت مجرد محاولة انقلاب ضد كاسترو. والكل يعرف اليوم أن المخابرات الأميركية كانت وراء العملية. كذلك الأمر بالنسبة إلى حرب فيتنام حيث استطاع الرئيس لندون جونسون الحصول على موافقة الكونغرس على عمليته العسكرية في فيتنام. وظهر في ما بعد أن النزاع لم يطرح مطلقا على التصويت من قبل النواب الأميركيين. على رغم ذلك أثار جونسون المخيلات مبتدعا افظع السيناريوهات ليستطيع الحصول على الاعتمادات اللازمة لحملة طويلة النفس. أعلن البنتاغون أن طرادة مادوكس الأميركية تعرضت لهجوم في المياه الإقليمية من قبل زوارق فيتنامية شمالية. والحقيقة أن الطرادة مادوكس هي التي طاردت الزوارق الفيتنامية لتغطي عملية إنزالها لكوماندوس من المخربين على السواحل الفيتنامية الشمالية. لكن الكونغرس اعتبر أن هناك اعتداء على السفينة الحربية الأميركية وحصل الرئيس على اعتماداته وورط 500 ألف جندي في أطول نزاع عرفته أميركا في الخارج.
لقد قال أحد أقطاب الصحافة في العام 1898 روندولف هيرست: «أعطوني الحرب وخذوا مني العناوين الكبرى». واستطاع بفضل صور ملفقة تعبئة الرأي العام في العالم الجديد ضد الجيش الإسباني. وبعد 92 عاما كان ليستحسن ما لفق من اجل حرب الخليج الأولى من مبررات ذات خلفية انتقامية وأنباء خاطئة ومعلومات مزورة واستنتاجات محكمة. وربما كان ليلوم نفسه على عدم تفكيره في ابتداع أسطورة الأطفال الرضع الكويتيين الذين ماتوا في الحاضنات لأن العسكر العراقي قطع عنها التيار الكهربائي. والكل يعلم اليوم أنها كانت مجرد أكذوبة لفقها أحد مواقع الإنترنت الأميركية. والى اليوم لايزال يردد كثيرون أن الذهب الأسود كان الدافع الوحيد لتلك الحملة غير العظيمة. ولقد سبق أصلا لوزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر أن قال قبل 15 سنة: «إن النفط أهم من أن يبقى في يد العرب». وطيلة أربعة اشهر، ظل الإعلام الغربي يردد بإصرار أن الجيش العراقي هو الجيش الرابع في العالم وانه يشكل خطرا حقيقا مخيفا. وتناولت الأنباء روايات عن مصانع للمبيدات الكيمائية تحولت إلى مصانع لانتاج الأسلحة البيولوجية بمساعدة وتواطؤ من مهندسين اوروبيين. وعندما بدأت الحرب نفت قيادة قوى التحالف ضخامة الأضرار الإضافية الجانبية وابتلع الرأي العام الغربي بكل بساطة خرافة «القنابل الذكية» و«الضربات الجراحية» و«القصف الضروري فقط». وقال البنتاغون أن عمليات القصف كانت دقيقة تماما... لكن رامساي كلارك، وزير العدل الأميركي السابق فضح الأمر حين ثار وقال: إن كل ذلك غير صحيح أبدا. وانه طيلة 42 يوما تم قصف العراق بـ 85 ألف قذيفة أي بقوة تعادل سبعة امثال قوة قصف هيروشيما. وقتل بين 150 و200 الف شخصا معظمهم من المدنيين.
ثم كانت حرب كوسوفو وبيانات الحلف الأطلسي عن حرب إبادة يريد منعها. وبدلا من الحديث عن مئات آلاف القتلى من الألبان الذين اغتالتهم قوات ميلوسوفيتش، نبشت المحكمة الجنائية الدولية 2108 جثة العام 1999 و680 جثة صيف 2000 ليست كلها لمدنيين ولا من الكوسوفيين.
وجاءت أخيرا الحرب على أفغانستان التي وجدت كل مبرراتها في اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول. هذه الحرب أكدت ما يعرفه الجميع منذ الحملات الصليبية. وهو أن الطرف القوي في لحظتها هو الذي يقرر حجم القتلى. ونتيجة الذعر العام يبتلع الرأي العام كل الروايات. وهناك من يدعى تيري مايسون استطاع أن يبيع 200 ألف نسخة من كتاب له يؤكد فيه أن المخابرات المركزية الأميركية السي أي أي هي التي ارتكبت الاعتداء ضد البنتاغون!!
معظم الأمثلة المذكورة في المقال مأخوذة من الكتاب الفرنسي:
`Saigneurs de La Guerre- Jean Bacon- Editions Phebus- Collection De Fact
العدد 177 - السبت 01 مارس 2003م الموافق 27 ذي الحجة 1423هـ