في كتابه «ستالين» وصف الباحث اسحق دويتشر معركة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية بدقائقها وساعاتها وأسابيعها وشهورها. ستالينغراد كانت معركة دموية فاصلة قلبت موازين القوى العسكرية بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي، ومنها تحوَّل الدفاع السوفياتي إلى هجوم كاسح لم يتوقف إلا عند بوابات برلين وإنهاء حكم هتلر.
لم تكن المدينة مهمة استراتيجيا برأي دويتشر. كان بإمكان هتلر تجاهلها أو تجاوزها أو تطويقها إلا انه لأسباب شخصية أراد إسقاطها. انها معركة نفسية شخصية. هتلر يريد إسقاطها لأن اسمها «ستالين غراد». وستالين يريد منع هتلر من تحقيق مراده لأن المدينة تحمل اسمه. تشخصنت المعركة وتحوَّلت «ستالينغراد» إلى مسألة كرامة ومن يكسب المدينة يذلّ الآخر وتُسجَّل بحقه إهانة تنال من سمعته أمام شعبه وجيشه. وبدأت المعركة. هتلر أمر قواته المنهكة في الجبهة الروسية بالاستيلاء على المدينة مهما كلف الأمر. وستالين أمر قواته المتراجعة بالدفاع عن المدينة مهما كان الثمن.
بدأت المعركة. هتلر استخدم كل ما يملكه من معدات وخبرات وسلاح تدميري. ستالين استخدم قواته الشعبية لإنزال أكبر كمية من الخسائر في الجيش النازي المتفوق في نوعية سلاحه.
امتدت المعركة وطالت. بدأت المواجهات على مداخل المدينة ونجح جيش هتلر في اختراقها. أخذت قوات ستالين بالتراجع المنظم شبرا شبرا. ومالت الكفة بداية إلى مصلحة ألمانيا. وكانت كلفة التقدم العسكري داخل المدينة مرتفعة جدا. سقط عشرات الألوف من الجهتين. ويقال إن هتلر وضع «ربع جيشه» في الجبهة الروسية في معركة «ستالينغراد»، بينما ستالين أمر قواته بحرق وتدمير كل ما يحيط بالمدينة حتى لا يستفيد منها هتلر.
في تلك الفترة دخلت الولايات المتحدة بقوة على الجبهة الروسية وبإيعاز من بريطانيا (تشرشل) أخذت واشنطن بإرسال الإمدادات على أنواعها إلى عدوها الايديولوجي (الاتحاد السوفياتي) من جهات مختلفة عن طريق تركيا وإيران وأفغانستان.
مالت الكفة إلى جيش هتلر وبدأت قواته تتقدم في المدينة فسقط الجزء الأول، والثاني، والثالث، والرابع... و... لم تسقط المدينة. بقي الجزء الأخير من ستالينغراد يقاوم ويشن غارات ليلية على الأجزاء المحتلة.
كاد هتلر ان يعلن سقوط ستالينغراد. المعركة افترقت على لحظات بعد مواجهات دموية شرسة امتدت على عشرة أشهر... إلا أنه لم يعلن سقوطها.
استفاقت المدينة، أو ما تبقى منها، على أصوات أسلحة روسية جديدة دخلت على خط الدفاع. نجح ستالين بمساعدات غربية (أميركية) في تجديد سلاحه وتحديثه، وكذلك استطاع الخبراء الروس اختراع أنواع من المعدات كانت مدهشة في تأثيراتها المعنوية في مقاييس ذاك الوقت.
دخلت المعركة مدفعية ثقيلة ومضادات جوية لكسر موجات الطيران الحربي الألماني ودخلت دبابات من نوع ثقيل... والأهم استخدمت للمرة الأولى «اراغون ستالين» وهي عبارة عن راجمات صواريخ تطلق القذائف على دفعات متتالية. وتوالى الهجوم المضاد من الجزء الأخير وبدأ ستالين يسترد مدينته من هتلر جزءا بعد آخر. فانكسرت معنويات الجيش الألماني وبدأ يتقهقر عن ستالينغراد خطوة خطوة فتحطمت قوات هتلر البرية وفقد الطيران العسكري تفوقه الجوي. واستعاد ستالين مدينته وانهارت ألمانيا على الجبهة الروسية.
ومن الجبهة الروسية بدأ الهجوم الاستراتيجي المضاد وأخذ الاتحاد السوفياتي يستعيد أراضيه وقراه المدمرة ومدنه المحروقة. واندفع ستالين في أوروبا الشرقية وزحف إلى برلين ليلاقي في الشطر الغربي القوات الأميركية الزاحفة من الأطلسي. وتُوقف الحرب لتبدأ «الحرب الباردة» من مدينة برلين المشطورة إلى قسمين: غربية وشرقية.
مناسبة الحديث عن ستالينغراد هو الكلام الذي صدر حديثا عن بغداد والاستعدادات الجارية هناك لخوض مواجهات عسكرية ـ شعبية تشبه تلك التي وقعت في ستالينغراد. المقارنة خاطئة. بغداد ليست ستالينغراد. والاختلاف ليس بين المدينتين بل في ظروف البلدين. هناك العمق الجغرافي، واختلاف موازين القوى، وتغيُّر الاستراتيجية العسكرية، وتطور الأسلحة والمعدات. والأهم ان ستالين لم يخض المعركة وحده. لم يكن الاتحاد السوفياتي يشهد عزلة دولية كما هي حال العراق اليوم. معركة بغداد لن تشبه ستالينغراد في حال وقعت. المقارنة ليست صحيحة. بغداد أقرب إلى بيروت. ومعركتها أقرب إلى تلك التي خاضتها العاصمة اللبنانية ضد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982. بغداد تشبه بيروت. هذه هي المقارنة الصحيحة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 177 - السبت 01 مارس 2003م الموافق 27 ذي الحجة 1423هـ