اليوم يجتمع البرلمان التركي لمناقشة الطلب الأميركي بالسماح للقوات الأميركية في التمركز على الحدود العراقية الشمالية انتظارا لإشارة البدء في الهجوم في حال اتخذ قرار الحرب على العراق.
واليوم تبدأ القمة العربية في شرم الشيخ وأمام الدول العربية «سلة» من المهمات وعلى رأسها قرار رفض الحرب وقراءة مستقبل المنطقة الذي يخضع الآن لمجموعة ضغوط ليست كلها في الاتجاه نفسه.
القوات الأميركية تنتظر بالألوف في قطع الاسطول السادس على أنواعها قبالة ميناء الاسكندرونة على الساحل التركي. والناس في تركيا ومختلف الدول العربية تضغط طالبة رفض القبول بالأمر حتى لو كانت الحوادث تتجه نحو حرب مفروضة بالقوة، وعلى رغم إرادة المنطقة التي توحدت نفسيا مجددا.
المنطقة الآن أمام مفارقة سياسية كبرى يتعارض فيها التاريخ مع الجغرافيا. والحاضر مع المستقبل. فالتاريخ يشير إلى قول «لا» لأن «نعم» تعني عودة المنطقة مجددا إلى عصر التمزق والتفكك والخضوع لإرادات عليا هي في النهاية لا تصب في مصلحة شعوبها. والجغرافيا اختارت المنطقة من جديد باعتبارها مجالا للاختبار الميداني، إذ من جبالها وهضابها وسهولها وانبساط صحاريها سيعاد تشكيل سلسلة علاقات دولية لعالم جديد يصاغ ضمن رؤية مختلفة.
الحاضر إذن في مواجهة مع المستقبل. الحاضر يشدّ الشعوب إلى منطق الجغرافيا (الثابتة) والمستقبل يدفعها نحو منطق التاريخ (التحول) والانتقال من التشتت إلى التجمع تحت راية مشتركة تكسر حاجز الخوف.
الاختيار من أصعب الأمور إلا ان الأسوأ هو عدم الاختيار وترك المسألة للقوى الدولية ان تختار مستقبلنا. فالمنطق الجغرافي يريد من المنطقة ان تستكين وتقبل بالأمر الواقع، وما هو أسوأ من الحاضر. والمنطق التاريخي يدفع المنطقة نحو رفض ما هو معروض من إغراءات لأن المستقبل، في حال أحسن الاختيار، سيكون في حده الأدنى هو الأفضل.
المفاضلة بين الحاضر والمستقبل هو نقطة الافتراق بين الجغرافيا والتاريخ. فالجغرافيا نجحت منذ أكثر من قرن في تفريق الوحدة والتاريخ يعاند السياسة ويؤكد منطقه ثانية ويدفع باتجاه توحيد الأجزاء التي تباعدت. فالمسألة إذن مسألة قرار. وقرار التاريخ هو الأصعب الآن لكنه الأفضل لحماية مستقبل المنطقة من «عالم مجهول» يريد افتراس ما تبقى من غنيمة.
الدول العربية المجتمعة الآن في شرم الشيخ في وضع صعب، فهي اما ان تجتمع كأمة على دول وقبائل على موقف تاريخي موحد، أو تتوزع مواقفها على الجغرافيا فتعود متفرقة إلى الدول والقبائل. وتركيا المجتمعة اليوم تحت قبة البرلمان في وضع أصعب من الدول العربية. فالعرب جامعة دول بينما تركيا دولة واحدة تعاني التمزق بين الهوية التاريخية والمنطق الجغرافي. والبرلمان الذي يسيطر عليه الإسلاميون (حزب العدالة والتنمية) مطلوب منهم اتخاذ قرار يتعارض في أساسه مع جوهر العقيدة. فالموافقة تعني انقلاب الحزب على نفسه وتعارضه مع الشارع الذي بلغت نسبة رفضه للحرب نقطة 90 في المئة. والمعارضة تعني انقلاب الدولة (المجلس العسكري) على الحزب وعودة الصراع بين الثكنة والمجتمع.
إنها لحظات صعبة وكلها محسوبة بالأيام والساعات. فتركيا الآن حاجة جغرافية للهجوم الأميركي وغدا تتراجع حاجة أميركا للموقع التركي حين تتمركز القوات في بغداد. فالعراق الجديد هو البديل الجغرافي المؤقت وبالتالي هو المكان المفضل والمقدم على تركيا. تركيا ستخسر كثيرا في حال نجحت الولايات المتحدة في احتلال العراق. كذلك ستعاني من مشكلات كثيرة في حال نجحت واشنطن في استدراجها إلى شمال العراق لمواجهة استحقاقات الجغرافيا ـ السياسية على حدود إيران.
تجديد الصراع الصفوي ـ العثماني على أرض العراق من أخطر المصائب التي ستحل بالأمة في وقت يسيطر فيه الإسلاميون (أو المنطق الإسلامي) على العاصمتين أنقرة وطهران. وكلام المعارضة العراقية التي أنهت اجتماعها في مدينة صلاح الدين في محافظة اربيل الشمالية والتحذيرات التي صدرت ضد تركيا واحتمال دخول جيشها العراق وتحديدا المناطق الشمالية (الكردية) الغنية بالنفط يشير في عناوينه السريعة إلى خطورة مستقبل المنطقة في حال عبرت القوات الأميركية الحدود العراقية من جهة تركيا. وأخطر التكتيكات التي يمكن أن تلجأ إليها واشنطن هو تعمدها ترك ثغرات وفراغات أمنية تستدرج القوى الإقليمية إلى السقوط في أفخاخها الجغرافية.
التعارض بين منطق التاريخ ومنطق الجغرافيا مشكلة. والمشكلة الأكبر هي أن يتحول التعارض إلى تناحر دموي بين كتلتين إسلاميتين كبيرتين على أرض عربية وعلى مقربة من القواعد الأميركية.
اليوم يجتمع البرلمان في تركيا والجامعة في شرم الشيخ والسؤال: من يتغلب على الآخر، الجغرافيا أم التاريخ؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 176 - الجمعة 28 فبراير 2003م الموافق 26 ذي الحجة 1423هـ