يبدو أن ساعة الحرب الاميركية ضد العراق تقترب بشدة، إذ تتدافع الحوادث والتطورات السياسية والعسكرية - مع الحرب الاعلامية والنفسية - في اتجاه بدء المعارك على ضفاف الرافدين.
وبينما يكتمل عدد القوات الاميركية مع نهاية هذا الاسبوع في المنطقة حول العراق وبقربه مئتي ألف جندي مع ترسانات هائلة من الاسلحة المتقدمة «والذكية»، فإن هستيريا الحرب تتصاعد بسرعة فائقة لتكسب مسرح العمليات زخما غير مسبوق، وخصوصا في الشرق الاوسط.
وفي حين تقترب دراما الحرب من عقدتها الفاصلة، فإن كوميديا العرب لاتزال تعرض بنجاح كبير على مسرح الخلافات والانقسامات، وبدرجة باتت تهدد المواطن العربي - بل الوطن العربي كله - بالموت اختناقا بالضحك الهستيري أو البكاء الهستيري... لا فرق!
دراما الحرب وتفاصيلها يعرفها الكافة الآن، فوسائل الاعلام الحديثة، وخصوصا الفضائيات التلفزيونية، لا تترك لحظة من لحظات النهار أو الليل إلا وتصب فوق الرؤوس وتضخ عبر الشرايين، سيلا هائلا من انباء الاستعداد الاميركي البريطاني «لخوض الحرب التي لا مفر منها» ضد العراق، ومشاهد التحركات العسكرية والمناورات الحربية - بأسلحة كثيفة ونيران حية - لا تتوقف، وكأن الحرب العالمية الثالثة على وشك الانطلاق، أو كأنما تحتشد هذه الارمادا الغربية الهائلة لاجتياح الصين أو غزو روسيا، وليس للانقضاض على دولة عربية صغيرة تقع تحت الحصار منذ اثني عشر عاما، وتخضع الآن للتفتيش الدولي الدقيق والمتشكك... ولسنا من اولئك الذين يقولون ان كل ما يجري هو مجرد استعراض للقوة وترويج للحرب النفسية، بهدف كسر إرادة العراق وتركيعه قبل بدء المعارك وانطلاق الصواريخ، فهذا استسهال للأمر وتهوين من الخطر المحدق، بل إننا نرى ان اميركا - بوش وصقوره المتشددين، اتخذوا قرار الحرب بأي ثمن، ولم يبق إلا محاولات حشد الرأي العام الدولي، وتدجين المعارضة الدولية المتسعة واحتواء التمرد الفرنسي الالماني الرافض للحرب.
الجدية والاصرار والتصميم إذن واضح كل الوضوح على الجبهة الغربية، تصميم اميركي بريطاني على خوض الحرب وتدمير القدرات العراقية، واحتلال هذا القطر العربي وتقسيمه بما يحقق المصالح الاميركية البريطانية اساسا... مقابل تصميم فرنسي الماني - حتى الآن - مدعوما بشكل من الاشكال بمواقف دبلوماسية روسية صينية، على تأجيل الحرب إن لم يكن شطبها، أملا في تحقيق الهدف والمصلحة بوسائل غير عسكرية.
هكذا يبدو الانقسام الغربي حادا صريحا واضحا، سواء بين الموقف الاوروبي والموقف الاميركي، أو حتى داخل الموقف الاوروبي نفسه، فيما بين المحور الفرنسي الالماني البلجيكي، وباقي دول الاتحاد الاوروبي، سواء منها المنحازة صراحة أو تلك التي تناور وتلعب على كل الحبال المشدودة... وفي كل الاحوال فإن الانقسام الغربي كله، يدور في الاصل والاساس حول المصالح الوطنية، وحول حساب المكاسب والخسائر، وليس حول عاطفة مشبوهة تجاه العراق، أو رغبة جامحة في مساعدة العرب وإنقاذهم من شرور انفسهم!
فليتنا كما نحن كذلك - على الاقل لنكون صرحاء مع انفسنا ومع الآخرين، سواء انحاز البعض لمحور الحرب الاميركية، أو لمحور الدبلوماسية الفرنسية الالمانية...
المهم ليتنا كنا صرحاء... ولكن!!!
غير ان «لكن» هذه تجرنا إلى ذلك السيرك السياسي العربي الراهن، الذي تتعارك فيه الديوك والثعالب على خلافات تبدو شكلية وعلى اجراءات ربما ادارية، لتكرس في النهاية انقساما سياسيا عربيا ظاهرا، لا تستطيع كل حملات النفاق والدعاية مواراته عن الابصار والبصائر، كما لا تستطيع كل ترسانات الاعلام الرسمية مخادعة الرأي العام العربي المتمرد وتضليله بالمقولات والمصحكوكات المملة، من نوع أن الموقف العربي متفق ومنسجم، وان العلاقات العربية صافية، وان النظام العربي الرسمي صامد متضامن!
جاء اوان المصارحة والمكاشفة... فما حدث في الاجتماع الاخير لمجلس وزراء الخارجية العرب قبل ايام وبيانه وتداعياته، ويكشف بما لا يدع مجالا للشك، انه بروفة حية لما سيحدث في القمة العربية المرتقبة.
بصراحة جارحة، تجسد الانقسام العربي واضحا، وزادت الشروخ - وليس الاختلاف فقط - بين المواقف الحكومية العربية، وها نحن نعايش لحظات مماثلة للانقسام الذي حدث في قمة اغسطس/ آب 1990، بين تيارين عربيين أو اكثر، وما انقسام اليوم إلا مجرد امتداد أو إحياء لانقسام الامس، إذ مضى اكثر من اثني عشر عاما، من دون جهد عربي حقيقي وصادق وفعال لفك عقدة الحال العراقية الكويتية، وإزالة آثار وتداعيات غزو العراق للكويت، فبقيت المشكلات معلقة، وبقيت النفوس معبأة، حتى وقع الانقسام الحالي، أو هو تجدد!
والمتابع للوضع يعرف ان الانقسام الآن قد يكون اشد عمقا وخطرا من انقسام الامس، وقد يضع، إذا استمر على تفاعله وتصاعده من دون احتواء عاجل، نهاية غير سعيدة، ليس فقط لمؤسسة القمة العربية وجدواها، بل قد يضع نهاية مأسوية للنظام العربي الاقليمي كله، بعد تأرجح طويل بين الفشل والنجاح على مدى نحو ستين عاما هي عمره منذ تأسيس الجامعة العربية... وبهذه النهاية تتحقق كل المنى للغرب و«إسرائيل»، وتكسب اميركا وحلفاؤها حربا شرسة من دون ان تطلق طلقة واحدة من مدافعها، اكتفاء بمدافعنا.
وما بين تصاعد هستيريا الحرب الاميركية البريطانية من ناحية، وانقسام المواقف العربية بعمق من ناحية اخرى، وقعت الارتباكات وتتالت فتعقدت خيوطها، ولا ندري إلى أية درجة من السخونة ستصل عندما تبدأ القمة العربية المنتظرة اجتماعاتها بعد ايام قلائل، هل ستصل خيوطا محترقة أم يشتد عودها وتستعيد عافيتها!!
من بين الارتباكات، ذلك الخلاف الغريب، الذي نراه شكليا، على عقد قمة استثنائية، أو قمة عادية، وعلى موعد انعقادها، بل على مكان انعقادها، وعلى جدول اعمالها من ثم!
لسبب رأته القيادة المصرية جوهريا وعاجلا، دعت إلى قمة استثنائية في نهاية فبراير/ شباط لبحث موضوع واحد هو الازمة العراقية، ولسبب آخر عارضت دول عربية كثيرة، فماطلت وسوَّفت، حتى نجحت في إلغاء القمة الاستثنائية، وإحلال قمة عادية عاجلة محلها، وعلى جدول اعمالها موضوعات عدة... وفي حين لعبت الايدي الخفية والاتصالات السرية والتحركات الخلفية ادوارها لعرقلة الدعوة إلى قمة استثنائية، بحجة ان الموضوع لا يستحق قمة استثنائية - !! - انفجر الخلاف علنا في اجتماع وزراء الخارجية العرب، علي نحو ما صار يعرف الآن بالانقسام العربي الحاد بين ثلاث جبهات، جبهة مع انقاذ العراق وضد الحرب الاميركية، وضد تقديم العرب لأي تسهيلات أو قواعد تنطلق منها القوات الاميركية.
وجبهة ثانية ترى انها ضد الحرب ولكنها لا تستطيع منعها، مثلما لا تستطيع الامتناع عن تقديم القواعد والتسهيلات إلى أميركا، بحكم ما تربطها بها من معاهدات دفاع، بل بحكم حلمها الدائم بزوال نظام الحكم العراقي الذي سبق ان غزا الكويت وهدد امن دول الخليج العام 1990.
ثم جبهة ثالثة نأت بنفسها عن مشكلات المشرق العربي وخلافاته، بل وانقساماته التي صارت حديث كل لسان عربي أو اعجمي، حتى بدا الامر نكتة سخيفة محجوبة تثير الاسى اكثر مما تثير الضحك!
وسط هذا الانقسام العربي الحاد، لم يكن الضغط الاميركي غائبا، بل نحسب انه كان حاضرا بقوة، مثلما كان الإغراء الاوروبي - الفرنسي الالماني تحديدا - ماثلا يستجدي من امة العرب ان تقف معه وتناصره، في دفاعه عن مصالحه ومصالحهم معا في وجه الشراسة الاميركية الهاجمة بكل هيمنتها الصاعدة، التي لم يظهر منها الآن إلا قمة جبل الجليد، أما الباقي فغاطس في المياه، سيظهر غدا...
ومثلما انقسم العرب بشأن اسخن قضاياهم - العراق وفلسطين - انقسموا على حلفائهم، هذا مع محور واشنطن لندن، وذاك مع محور باريس برلين، كما لو كان لا احد يقف مع بغداد أو القاهرة أو الرباط أو دمشق، لا احد يقف مع نفسه، لقد اختلف وتخاصم مع نفسه وانقسم عليها وانفصم، بينما العالم يتابع مشدوها مذهولا، اما الشعوب العربية فتقف الآن مصدومة بعد ان فقدت الثقة بكل شيء!.
الآن... هل تستمر هذه الاسطوانة المشروخة، التي تقدم إلينا لحن الانقسام العربي، دائرة؟ هل تقتحم قاعة القمة العربية المنتظرة، ثم تشيعها إلى مثواها الاخير، أم تحدث معجزة عربية جديدة في مطلع القرن الحادي والعشرين!!
على رغم ضباب التشاؤم الذي يلف الآفاق حولنا، ويخنق فينا الانفاس، نحلم بمعجزة عربية متواضعة للغاية، تقوم على ادراك هذه القمة طبيعة المخاطر الجسيمة المحدقة بحاضر العرب ومستقبلهم، وتخترق امنهم القومي، وتثير فيهم الخلاف والانقسام...
وهل هناك مخاطر اشد من حرب وشيكة ان دمرت العراق فلن يكون وحده، بل ان التدمير سيعم المنطقة كلها، ربما بقصد، إعدادا لاعادة ترتيب الاوضاع المهترئة وتنظيم السياسات المتهمة - اميركيا - بالفساد والاستبداد والتخلف والتعصب والارهاب!
وهل هناك مخاطر اسخن من حرب فعلية دائرة واقعيا تشنها «اسرائيل» المدعومة اميركيا ضد الشعب الفلسطيني لابادته وتدمير كيانه، واغلاق ملفه إلى الابد وفق الرؤية الصهيونية الغربية...
كل هذا صحيح، فثمة مخاطرة جسيمة إذن تحتاج إلى قرار عربي واتفاق يليق بقمة عربية، تشخص إليها الابصار وسط عواصف الرمال... لكن الصحيح ايضا ان هناك مخاطر اشد جسامة تنتظر صباح الغد لتفجر في وجوهنا وبين احضان اطفالنا، نرجو ان تلقى بعض الاهتمام من جانب القمة المنتظرة، التي نرجو ألا تكون الاخيرة...
ونحسب ان من اشد هذه المخاطر جسامة، عودة الاستعمار بشكليه التقليدي وغير التقليدي، إلى بلاد العرب، إذ القواعد والتسهيلات تنتشر على اراضيهم وفي مياهم واجوائهم بلا مداره... لقد فقدنا المعنى الجوهري والعميق للاستقلال الوطني والقومي، ذلك الذي لم نستمتع بزهوه إلا نحو خمسة عقود، بعد قرون خمسة من الاحتلال العثماني، ثم البريطاني والفرنسي والايطالي، بل والاسرائيلي.
ونحسب ايضا ان اشد هذه المخاطر جسامة، احتقان الاوضاع الداخلية في بلاد العرب جمعاء، يلاحقه اختناق سياسي اقتصادي اجتماعي يكتم على انفاس الشعوب، التي صارت تتنفس بخارا يوشك ان ينفجر، فثمة ازمات اقتصادية اجتماعية، وصراعات سياسية، واحيانا مذهبية طائفية، واتساع مساحات الفقر ومعدلات البطالة والانحراف المؤدي حتما إلى الاحباط واليأس، فالتطرف والتعصب والفساد والاستبداد...
وفوق هذه المنظومة الكسيرة العاجزة، تعوم ازمتنا الحقيقية ويغرق واقعنا الحقيقي، فتركب جيوش الاستعمار الجديد حاضرنا وتشكل مستقبلنا، وتعيد انتاج ادعاءات الاستعمار القديم، التي كانت تقول دائما جئنا لنحدثكم ونطوركم ونعلمكم اصول الحكم ومبادئ المدنية والديمقراطية والحداثة، أليس هذا هو ما نسمعه اليوم...
امام هذه المخاطر الجسيمة، كم تبدو خلافات العرب وانقساماتهم الدائمة... تافهة بل وسخيفة!
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 175 - الخميس 27 فبراير 2003م الموافق 25 ذي الحجة 1423هـ