لجأ محاور للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان الى رسم صور مغايرة لما هي عليه البلد التي تقطنها... فقد كانط مدينة نابلس مغلقة من جميع الجهات، والوصول اليها صعب...! وعلى رغم هذا قررت الذهاب الى نابلس، كما تعودت حين اعود الى مسقط رأسي قرية «ذنابة» التي تم ضمها الى بلدية طولكرم، وتم اطلاق اسم ضاحية ذنابة عليها، وان كنت حتى الآن اصر ان اقول عنها «قرية» على رغم كل التغييرات التي طرأت عليها.
فنابلس «عاصمة جبل النار» ومركز المحافظة لقرى ومدن شمال فلسطين ومنها مدن طولكرم وجنين، التي صارت في ما بعد محافظات مستقلة في ظل السلطة الوطنية الفلسطينية، ونابلس تعتبر الآن من أكبر المدن الفلسطينية من ناحية المساحة والسكان، وهي احدى دعائم الاقتصاد الفلسطيني، فقد تميزت بمصانع الصابون التي عرفتها المدينة منذ مئات السنين... واشتهر اهلها كذلك في صنع الكنافة النابلسية التي اعطتها شهرة واسعة، وسكنها مجموعة كبيرة من ابناء القرى والمدن الصغيرة والتصقت مبانيها مع مجموعة كبيرة من القرى المحيطة بها، مثل: تل، ورفيديا وبيت ايبا وكذلك حوارة ومخيمات بلاطة وعسكر الجديد والعين... تلك المخيمات التي شكلت محورا رئيسيا في النضال ضد الاحتلال الاسرائيلي الذي اقتحم بدباباته ومجنزراته وآلياته تلك المخيمات في محاولة للحد من جذوة النضال.
تنفست الصعداء يقول الاديب زياد عودة الذي حاور طوقان حين وصلت قلب مدينة نابلس، وشعرت بالارتياح لذلك، على رغم الحصار المفروض عليها من كل الجهات، رأيت الساعة لاتزال ماثلة وسط الدوار الذي يعتبر بمثابة القلب بالنسبة لنابلس، ويطلق عليه ساحة الساعة.
وتوجهت الى بيت شقيقتي الكائن في ضاحية المخفية، وهي ضاحية جديدة بنيت عند سفوح جبل جرزيم العتيد.! كان في ذهني ان اتجول في مدينة نابلس، وارى ما حل بأحيائها القديمة التي استهدفها العدوان الاسرائيلي وخصوصا حارة الياسمين التي ابلى سكانها بلاء حسنا في الدفاع عن انفسهم على رغم كل الظروف القاسية، وكذلك زيارة الشاعرة فدوى طوقان، وقد اتصلت بها هاتفيا، وحددت معها موعدا في المنزل الذي تسكن به مؤقتا ويقع بالقرب من جامعة النجاح، تلك الجامعة التي وقعت فيها الكثير من المواجهات وسقط فيها مجموعة من الشهداء والجرحى.
وفي الموعد المحدد تحركت مع شقيقتي وابنها الشاب منجد يونس، اذ اصرت اختي على الذهاب معنا، على اساس ان فدوى تعيش وحيدة، وتقتضي التقاليد والعادات في هذه الحال ان تكون هناك امرأة برفقتي.
تأخرنا عن الموعد نصف ساعة، بسبب الازدحام الشديد الذي تزامن مع انتهاء طلبة النجاح من محاضراتهم عند الرابعة مساء، إذ بدأت الشمس تغيب، وبعد ساعة او ساعتين سيبدأ تطبيق منع التجول... كانط السماء تمطر بغزارة ووصلنا الى منزل الشاعرة فدوى متأخرين نصف ساعة عن الموعد المقرر... وقفنا امام الباب الكبير الذي تميزت به معظم بيوت نابلس القديمة، كان بيتا ضخما وعريقا، واستقبلتنا احدى الخادمات الفلبينيات وقادتنا الى الصالون الكبير الذي تجلس فيه الشاعرة فدوى طوقان، وجلست على احدى المقاعد التي يدل منظرها على قدمها، استقبلتنا بحفاوة وكانط تستمع الى نشرة الاخبار من احدى الاذاعات من مذياع صغير. بدا المكان واسعا ورحيبا ينم عن تاريخ عتيق عابق بالعز والثراء! كان اللقاء بتاريخ 25/12/2002 وكان العالم يحتفل بعيد الميلاد المجيد، وعلى رغم ذلك فقد كان يوما حزينا في تاريخ فلسطين المجروحة بسبب الحصار الاسرائيلي لكنيسة المهد في بيت لحم المجروحة التي مر عليها ذلك العيد ثقيلا وكئيبا وجلست مقابل الشاعرة فدوى، التي هنأتها على شفائها إثر الوعكة الاخيرة التي ألمت بها... كان الاعياء واضحا على جسدها ووجهها.
فدوى طوقان أمامي بشحمها ولحمها، وجلست على مقعد وثير، والى جانبها المذياع تستمع لنشرة اخبار انعكست اثارها على وجهها ألما واستنكارا لما يجري في بلدها المحتل فلسطين، وما كان جرى قبل ساعات قليلة من اقتحام قوات الاحتلال الصهيوني لجامعة النجاح التي تسكن بالقرب منها، تشاهد عن قرب صورا دامية من مأساة اهلها. قالت بعد ان اغلقت المذياع: لقد دخلنا في نفق مسدود...
غير معقول ما يجري في بلادنا... فمنذ زمن طويل ونحن نعاني... ما اقساها من حياة... ثم اضافت بعد صمت قصير: «يقولون عني اني متشائمة، ولماذا لا اكون متشائمة ونحن نعيش القلق والرعب من قذيفة قد تدمر بيتي او بيت جاري»... ثم قالت: «العالم كله يتفرج على مأساتنا، من دون ان يصنع شيئا لوقف هذه المجازر وحمامات الدم التي تسيل من شرايين ابناء شعبنا».
شعرت بالحيرة من هذه المقدمة فقلت لها: الحمد لله على سلامتك، فأجابت وكأنما انتبهت الى كلامي: «لقد اصبت بالجلطة منذ اسابيع قليلة، وكنت وحيدة في المنزل، فالخادمة تعمل حتى المساء واظل وحيدة في ساعات الليل، في المنزل الجديد الذي بنيته».
وتابعت «داهمتني الجلطة في منتصف الليل وبقيت مغشيا عليّ لحين حضور الخادمة في الصباح، والتي سارعت الى نقلي للمستشفى، كانط تجربة مريرة عشتها... ولهذا قرر ابن عمي السيد فاروق طوقان ان انتقل الى هذا البيت لأكون قريبة منه... وتركت منزلي الجديد الكائن في حي المخفية والذي يقوم على سفوح جبل جرزيم»، ثم اضافت بحزن: «لقد وهن جسدي، وضعف بصري اذ لم اعد اتمكن من القراءة او الكتابة! ومنذ سنين طويلة لم اكتب شيئا جديدا سوى قصيدة قصيرة ضمنتها تجربتي في الحياة».
قلت لها، قبل أيام وقعت بيدي نسخة من مجلة «الدوحة» التي كانط تصدر عن وزارة الاعلام في قطر، والعدد صادر في العام 1976، وجاءت فيه مقالة كتبها رجاء النقاش رئيس تحرير المجلة آنذاك اذ اشار فيه الى انه اصدر كتابا حمل عنوان «صفحات مجهولة في حياة الادباء»... والجانب الاكبر من الكتاب جاء فيه على ذكرك، واشار الى قصة حب كبيرة ارتبطت فيها مع الشاعر المصري الراحل انور المعداوي الذي طلب يدك للزواج، ولكنك كتبت له رسالة مؤثرة تتمنين فيها ان لا يأتي على سيرة الزواج وان تكونا صديقين - اذ ان تقاليد اسرتها المتزمتة لا تسمح لها بذلك - تارى ما صحة هذه الحادثة وقد اشار النقاش الى ان الكثيرين لم يستسيغوا كشف هذا السر في حياتك؟ ولكنه قال بالقلم العريض وهو يدافع عن كتابه: وقد غضب الغاضبون لاجل فدوى، ولم يغضبوا بسبب الحياة القاسية التي عاشتها فدوى، وانتهت بها الى الوحدة والبعد عن الناس».
سرحت طويلا، قبل ان تقول وهي ترسم على وجهها ابتسامة باهتة تدل على المرارة التي شعرت بها من تجديد لذكريات طويلة وقاسية «هذه الحادثة صحيحة مئة في المئة»، وصمتت وكأنها لا تريد ان تخوض في ماضٍ تعيش ذيوله ومشكلاته هذه الأيام...! غير انني فاجأتها بسؤال ثان: هناك من يقول إن موشي ديان وزير الحرب الاسرائيلي طلب مقابلتك، وجرت المقابلة في بيته من أجل ان تحملي رسالة منه الى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. ترى ما سر هذه المقابلة التي جرت في أواخر العام 1969، وماذا جرى فيها؟ تململت قليلا في جلستها وقد أثار هذا السؤال مشاعر مختلفة في ذاكرتها وردت بهدوء: بعد احتلال الضفة الغربية وغزة ومناطق اخرى من مصر وسورية ولبنان، كنت اقوم بدوري باعتباري شاعرة عز عليها احتلال بلدها، اذ قدمت الكثير من الامسيات الشعرية في معظم المدن الفلسطينية المحتلة، من دون اشعار الحكم العسكري بهذه الامسيات، وصادف انني القيت امسية شعرية في مدينة بيت جالا، وحضرت مجموعة كبيرة من الناس وعلى رأسهم الشخصيات الكبيرة، وكانط تلك الامسية مناسبة وطنية ألهبت مشاعرهم وجعلتهم يصفقون ويهتفون ضد الاحتلال، ويبدو ان خبر هذه الامسية وصل الى علم الحاكم العسكري».
صمتت قليلا ثم تابعت: «قام الحاكم العسكري باستدعاء بعض التجار الموسرين والمعروفين... وقال لهم: لا ادري ما الذي دفعكم الى حضور امسية فدوى طوقان، ثم تبعتم كلماتها بالتصفيق والهتافات المعادية لنا... وانتم المنعمون والمترفون واصحاب الاموال الطائلة... هكذا فعلت بكم الشاعرة، وانفعلتم بلا حدود... فاجابوا الحاكم العسكري بصوت واحد: «اننا اصحاب قضية واصحاب حق، واثارت فينا فدوى الحنين الى الحرية، والانعتاق من سجن الاحتلال»، ثم تابعت: «وبعد ايام فوجئت بالهاتف يرن في منزلي، وكان المرحوم حمدي كنعان على الهاتف... وبعد التحية والسؤال عن الحال قال لي: ان موشي ديان وزير الحرب الاسرائيلي اتصل بي، وطلب مني ان يلتقي بك اما في دار البلدية في نابلس او في القدس، وكان حينها رئيسا للبلدية»، فوجئت بالطلب الذي اعتبرته غريبا لاسباب كثيرة اهمها انني لم افكر في يوم من الايام بلقاء او مصافحة اي مسئول اسرائيلي سرق وطني وسرق شعبي... واجبته دعني افكر في الامر وسأرد عليك بما انوي فعله قريبا (..) وبعد ان اغلقت السماعة، اتصلت بابن عمي قدري طوقان، لكي استشيره في الموضوع، وكان رده لا بأس من مقابلة ديان... فطلبت منه ان يرافقني في هذه الزيارة ووافق... واتصلت بعدها بكنعان «اخبره عن موافقتي لمقابلة ديان في نابلس او القدس»، وصمتت قبل ان تتابع : «بعد ايام تم ترتيب المقابلة وتوجهت الى لقاء ديان برفقة حمدي كنعان وقدري... وكان يوم جمعة على ما اذكر، وبعد خروجنا من نابلس، رأيت السيارة تسير غربا، فقد خُيل لي ان المقابلة ستتم في مدينة القدس شرقا... وسألت كنعان الى اين تسير بنا السيارة فرد قائلا: نحو تل ابيب! اسقط في يدي فلم اتوقع ان تكون المقابلة في تل ابيب! وعند احدى البوابات توقف بنا السائق، واشار كنعان الى اننا امام منزل ديان... ونزلنا من السيارة وكان ديان في استقبالنا حيث صافحناه، وطلب منا الدخول الى المنزل... وبعد ان اخذنا مقاعدنا في الصالة ظل ديان واقفا، نظر الينا بعينه الوحيدة وقال وهو يوجه كلامه الينا بعصبية واضحة: «لماذا تكرهوننا»؟ «لماذا تحقدون علينا»؟ وجاء ردي سريعا حين قلت له: «نحن لا نكرهكم بصفتكم شعبا... بل باعتباركم محتلين!! وشعرت انه فوجىء بردي هذا وجلس الى جانبنا!».
قال: بل انتم الذين بدأتم بالعدوان... وها هو عبدالناصر يعمل على تسليح جيشه من أجل ضربنا! انهم يريدون القاءنا في البحر!! فلماذا لا يجنح الى السلم... اؤكد لك اننا نحلم بدولة صغيرة نعيش فيها بسلام... فأنا تلميذ بن غوريون الذي يسعى الى ان يكون لنا دولة نعيش فيها مع جيراننا بسلام... قلت: اذا اردتم ان تعيشوا بسلام كما تقول فلماذا لا تسعون إلى ذلك اولا، وذلك باعادة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم، وتنفيذ قرارات الامم المتحدة التي يبدو انكم غير مهتمين بها، برفضكم قبول اي قرار! وما ان انهيت كلامي، حتى اجابني ثائرا: لا عودة للاجئين بأي شكل من الاشكال... قلت له: اذن فأنتم الذين تضعون العراقيل، فالحل العادل يقضي بعودة اللاجئين.
واستمرت فدوى طوقان في الحديث عن تلك المقابلة، اذ قالت لموشي دايان: ان ادعاءكم بأن العرب سيلقون بكم في البحر باطل ولا اساس له ورد قائلا ان اللاءات الثلاثة - لا صلح لا استسلام لا مفاوضات - لاتزال ترن بأذني وهي دعوات صارخة الى الحرب، فقلت : ولكن عبدالناصر والزعماء العرب قبلوا بقرار 242 وهذا يعني ان كل تصريح او حديث قبل هذا انتهى... وقبول هذا القرار معناه انهم رضوا بالقرار الذي ينص على انسحابكم من الاراضي المحتلة، ولكنكم لم تعيروا القرار اي اهتمام.
وتابعت «انتهت المقابلة عند هذا الحد اذ لم يطلب مني الكف عن القاء الشعر و مقابلة اي مسئول عربي».
واستطردت: «في اليوم التالي من المقابلة، اتصلت بقدري طوقان واخبرته ان يدعو الى اجتماع عام لأتحدث اليهم عن هذه المقابلة حتى لا تفسر تفسيرات مغايرة للواقع والحقيقة. وبالفعل تم اللقاء مع جميع الفعاليات الشعبية في نابلس وشرحت لهم قصة اللقاء بصراحة ووضوح اذ ابدى الجميع ارتياحهم لذلك» ثم تابعت: بعد ايام طلبت تصريح سفر للذهاب الى عمّان... بالفعل سافرت من نابلس الى عمّان التي مكثت بها عدة ايام وتوجهت بعدها الى القاهرة... وكانط انباء تلك الزيارة قد نشرت تفاصيلها في الصحف العربية والاجنبية على السواء.
ولدى وصولي الى القاهرة اقمت عند احدى الصديقات، وفوجئت بمدير المخابرات المصرية آنذاك وقد جاء لزيارتي، وتحدثنا بشأن مقابلتي لموشي ديان... وابدى ارتياحه بعد سماعه تفاصيل اللقاء... ونشرت الصحف المصرية نبأ وصولي الى القاهرة وجاءت حرم المرحوم الصحافي احمد بهاء الدين وهي صديقة قديمة، اذ عرفتني على حرم نائب رئيس الجمهورية أنور السادات السيدة جيهان السادات التي قالت لي انها ستقوم بترتيب لقاء مع الرئيس جمال عبد الناصر بواسطة زوجها انور السادات ولكني قلت لها: انا اتمنى ان اسلم على السيد الرئيس...
ولكني اعرف انه مشغول جدا ولا اريد ان اشغله بي... ولكنها اصرت على ان تأخذ لي موعدا وبعد يومين اتصلت بي السيدة جيهان السادات... وقالت «ان الرئيس عبد الناصر سيستقبلك في بيته». صمتت قليلا قبل ان تقول «في اليوم المحدد وكان يوم جمعة، وفي العاشرة صباحا ذهبت برفقة حرم بهاء الدين الى منزله الصغير في منشية البكري... إذ استقبلنا الحرس بكل احترام وادخلوني الى صالة الضيوف. وبعد خمس دقائق اطل السيد الرئيس وتقدم نحوي وصافحني بيديه الثنتين مرحبا بي بحرارة... جلس امامي وسألني عن احوالنا في الاراضي المحتلة فاجبته انهم صامدون وانهم يأملون ان يتخلصوا من قيود الاحتلال، فرد قائلا: اعانهم الله ونحن سنظل معهم الى الابد».
وسألني عن مقابلتي لموشي ديان، فاطلعته على الحوار الذي جرى بيني وبينه بالتفصيل.
وابدى رضاه عن آرائي التي طرحتها على ديان وانتهت المقابلة.
وانتهى الحوار مع فدوى طوقان عند هذا الحد، فقد نظرت الى ساعتي وكانط تشير الى السادسة تماما... فاستأذنت بالخروج حيث يبدأ تطبيق منع التجول في مدينة نابلس قامت تودعنا الى باب المنزل وشكرتنا على هذه الزيارة
