التقى أكثر من مئة مسئول وزعيم دولة في ماليزيا (كوالالمبور) في إطار «منظمة عدم الانحياز» وأعلنوا رفضهم للحرب المحتملة على العراق. وهناك من ذهب إلى أبعد من رفض الحرب معتبرا الحملة الأميركية غطاء سياسيا لهجوم على الاسلام والمسلمين.
وبعيدا عن قدرات «دول عدم الانحياز» الاقتصادية، وهي ضعيفة قياسا بحجمها وتعداد سكانها ووزنها السياسي، تبقى المنظمة هيئة تجتمع في إطارها سلسلة من الدول تحت سقف واحد رافضة الهيمنة الدولية. فالمنظمة في أساسها فكرة سياسية وليست اقتصادية وجاءت في الخمسينات ردا على الاستقطاب الدولي بين معسكرين أحدهما اختفى من على الساحة العالمية (المنظومة الاشتراكية) والثاني انقسم الآن على نفسه ويتجاذبه أكثر من قطب (المنظومة الرأسمالية).
انقسام المنظومة الرأسمالية بسبب الخلاف الأوروبي - الاميركي أعاد إحياء فكرة «عدم الانحياز» وعزز موقف «الحياد الايجابي» بين قوتين تدفعان باتجاهين متعارضين.
فالفكرة كادت ان تموت برحيل ابطالها (عبدالناصر، ونهرو، وتيتو، وسوكارنو) الا انها نجحت في اعادة تنظيم دورها في إطار السعي إلى وقف التجاذب الدولي الذي ساد العالم منذ الخمسينات إلى التسعينات بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.
وحين انهار الاتحاد السوفياتي وتفكك معسكره الاشتراكي اهتزت الفكرة مجددا وكادت ان تتبعثر «دول عدم الانحياز» بسبب تهافت المنطق الداخلي للفكرة وانتفاء المبرر الأخلاقي لقيامها. فالاستقطاب (التوازن الدولي) انكسر لمصلحة فريق على آخر. والدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي انحازت من معسكر إلى آخر. حتى زعيمة المنظومة الاشتراكية أخذت تطرق ابواب اوروبا بقوة لقبولها عضوا في دائرة كانت تهدد بتحطيمها قبل عشر سنوات.
في ظل «انتصار» الولايات المتحدة بهتت فكرة «الحياد الايجابي» وكادت منظمة «عدم الانحياز» تتحول إلى هيئة للاجتماع والتداول في مصير فكرة اختفى قادتها وتلاشت مبرراتها. كاد العالم ان يتحول إلى ولايات اميركية في لحظة الانبهار بذاك الحدث التاريخي وهو خروج قوة من المنافسة الدولية تحمل فكرة اقتصادية متناقضة مع الأفكار التي كان يقول بها المعسكر الرأسمالي.
الا ان الغرور الاميركي والطموح الجارف نحو الهيمنة أنقذا الفكرة من «الموات» الزمني وأعطيا لعدم الانحياز مبرراته الأخلاقية للوقوف مجددا والصمود في وجه قوة جديدة تريد فرض شروطها على العالم من دون قراءة دقيقة لتعقيدات خريطته السياسية والثقافية والحضارية.
عدم الانحياز آنذاك كان فكرة مناسبة للدول التي ترى في نفسها انها ليست رأسمالية بالكامل، وليست على استعداد لأن تتحول إلى اشتراكية وفق التصور السوفياتي. والحياد الإيجابي كان الرد السياسي على ضغوط تمارسها المحاور الدولية لجذب هذا الفريق في معركته الكبرى ضد الفريق الآخر.
وحين لجأت «الدول الثالثة» إلى صوغ فكرة ثالثة تبرر تجمعها كان القصد من ذلك منع الاستقطاب الدولي من شدّ الدول إلى دائرة الصراع تكون هي ميدانه السياسي. فالحياد كان يعني عمليا عدم الانحياز إلى فريق ضد آخر ومحاولة للاحتفاظ بشخصية مستقلة في وقت اتجهت الدول الكبرى إلى كسب الدول الصغيرة لحسابات أكبر من قدراتها البشرية والاقتصادية. فالفكرة نظريا محايدة وعمليا ليست سلبية بل تملك وجهات نظر إيجابية في قضايا الصراع الدولي. وهو أمر أعطى للحياد معناه السياسي.
الآن اختلفت الظروف والمواقع والمهمات. فالانقسام الكبير (رأسمالي - اشتراكي) اضمحل وتلاشى وبرزت مكانه سلسلة انقسامات أخذت تتبلور حديثا في انقسام جديد (رأسمالي - رأسمالي). فالحياد الإيجابي الآن ليس بين فكرتين بل بين فكرة مشتركة واحدة تريد الهيمنة وأخرى تريد المشاركة (المحاصصة).
هذا الانقسام الجديد أعطى قوة معنوية لفكرة عدم الانحياز وجدد امكانات تطوير «الحياد الإيجابي» ونقله من طور صيغة الخمسينات في القرن الماضي إلى صيغة جديدة تتناسب مع تطورات العالم المعاصر في مطلع القرن الجاري.
فكرة عدم الانحياز في صبغتها الأولى باتت قديمة وتجاوزها الزمن نظرا إلى اختفاء عناصرها السياسية، إلا ان مبرراتها الأخلاقية لاتزال تملك بعض الحيوية. وتجدد الانقسام الدولي في المعسكر الواحد يعني ان فكرة «الحياد الإيجابي» لم يتجاوزها الزمن إذا أحسن تطويرها وإدخال عناصر جديدة عليها تعطيها حيوية وتعيد إليها فاعليتها... حتى لو انطلقت أو التقت على مسألة محددة عنوانها: العراق.
دول عدم الانحياز، سابقا وحاليا، ليست قوة اقتصادية ولا هيئة سياسية كبرى تستقطب دول العالم... انها أصلا فكرة سياسية بسيطة. وقوتها في بساطتها. وبساطة الفكرة (رفض الهيمنة الأحادية الجانب والقول بالتعدد والتنوع) تفسر إلى حد كبير استمرار «دول عدم الانحياز» في وقت أخذت «دول الانحياز» تتلاشى أو تنقسم مجددا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 173 - الثلثاء 25 فبراير 2003م الموافق 23 ذي الحجة 1423هـ