العدد 172 - الإثنين 24 فبراير 2003م الموافق 22 ذي الحجة 1423هـ

التلاسن في الإعلام الغربي على الطريقة العربية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

من يظن ان الحقيقة هي اول ضحية من ضحايا الحرب، عليه ان يؤكد هذا الظن باليقين، فلم يعد الاعلام سلاحا للتنابذ بين الدول والمجتمعات المتخلفة، فيطلق عنانه عندما يختلف الساسة وأولو الأمر فيما بينهم، بل وأصبح ايضا سلاحا في المجتمعات المتقدمة اذا اختلف الساسة يغوص في الممنوع، ويخرج ما خفي من بطنه الداخلي، ويشوه الصورة ما امكن له ذلك، في الازمات تخرج حقيقة الاعلام على السطح، فليس هناك اعلام (مستقل) في معنى الكلمة، هناك اعلام ذكي يقدم قضيته في ثوب جميل إلى المتلقي، وآخر غبي يقدم العصبية ويحب الصراخ، اما ان يكون هناك اعلام مستقل فذلك خرافة علينا ان نعيد النظر فيها.

ومن يطلع في هذه الفترة على بعض ما تنشره وسائل الاعلام في الجانبين المختلفين من الأطلسي يتأكد من تلك الحقيقة، ففي جانب هو الولايات المتحدة وبريطانيا وجانب آخر هو فرنسا والمانيا، يتناطح المختلفان اعلاميا بأقذع العبارات في وسائل الاعلام المختلفة والمكتوبة منها خصوصا، إذ استخدمت كلمات مثل (النذل) و(الأبله) بل وحتى (القواد) لوصف الرئيس جاك شيراك في بعض وسائل الاعلام الشعبية البريطانية، كما وصف بـ (الحرامي) في بعضها الآخر.

ولم تقصر الصحافة الفرنسية برد الصاع صاعين في هذا التلاسن الفظ باتجاه، أولا، رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، وثانيا تجاه الرئيس الاميركي جورج بوش وبعض معاونيه، بل وتناولت الصحف الفرنسية (الشخصية) الاميركية بوصفها شخصية متعجرفة وفاقدة للاحساس بواقع العالم. وتناولت الصحف ايضا سيرة زوجة رئيس الوزراء البريطاني بكثير من القدح واشارت إلى بعض (الفضائح) المالية التي يدعى انها ارتكبتها، كما اظهرت زوجها رئيس الوزراء بأنه تابع طيع للولايات المتحدة، كما يتبع (الكلب) الوفي صاحبه!

كثير منا يتأفف بل ويغضب من طريقة تناول وسائل الاعلام العربية الموضوعات المختلف عليها بين الدول العربية، الكلمات المستخدمة والتعبيرات الخارجة على الذوق والتهديدات وفتح الملفات وحتى تدبير الاكاذيب. وكنا نعتقد ان طريقة التناول الفجة تلك هي نتيجة (تخلف) من نوع ما في معالجة شئوننا السياسية والاختلافات النابعة منها، وهي اختلافات تكاد تكون مزمنة، إلا ان التناول في وسائل الاعلام الغربية في الآونة الاخيرة بين المؤيدة والشاجبة، وكل منها يتحيز لبلده وسياسته، اظهرت ان التناول الاعلامي الفج متقارب في الطرق التي يتناول فيها الموضوعات، بصرف النظر عن طبيعة الدولة ومستوى ممارستها السياسية، علينا ان نتحفظ في القول ان هناك بعض الشواذ لمثل هذه القاعدة، ولكنه شواذ يؤكد القاعدة ولا ينفيها.

لم تتوان بعض الصحف في التحالف الاميركي البريطاني بأن تصف الالمان بأوصاف تذكرهم بالزعيم النازي هتلر، وهي سُبة يتفزز منها الالماني ولكنه لا يستطيع إلى ردها سبيلا، حتى ان بعض الصحف نشرت ما سمته التاريخ (غير المعروف) للمستشار الالماني، وهي محاولة للغمز المضر بسمعته السياسية.

وسئل بلير في مؤتمر صحافي حاشد: هل ستصبح علاقتك بالرئيس شيراك علاقة طبيعية بعد هذا الخلاف السياسي البين بينكما؟ فرد بلير، ولا يفتقد المراقب ان يلاحظ الغصة في حلقه، ان ذلك لن يؤثر على العلاقة الشخصية، ولكنه لا شك سيؤثر على العلاقة بين البلدين!

ولا تتأخر وسائل الاعلام في (اوروبا القديمة) في أن تفتح ملفات (شعب الله المختار) للاشارة إلى البريطانيين والاميركان، وذلك لمحاولة نقد تفردهم في شئون العالم والقول ان رأيهم هو الصحيح وآراء الآخرين هي الخطأ بعينه.

لعل السابق من الامثلة يعطينا دلالة على انه تحت سطح التحضر الذي تتعامل به الدول الغربية فيما بينها، وعلى متانة العلاقات الاقتصادية والسياسية، فإنها حين تحين الساعة يقوم بعض اعلامها (بفرش الملاية) على رأي المثل الشعبي المصري، للدفاع عما يعتقد انه مصالح وطنيــة، ويَفجـر في القول، كما يفتح الملفات القديمة من دون مواربة، وتضيع الحقيقة او تفقد.

قد يكون الامر كله مقبولا ومعروفا، ولكننا عندما نتعرف على مركزية الاعلام في التخطيط الاميركي الجديد للمنطقة العربية واصرارهم على وجود اعلام بعيد عن سلطة الدولة، نعرف على وجه الدقة اي نوع من الاعلام سنواجه، فرتشرد هيس (رئيس قسم التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الاميركية) يؤكد في محاضرة له، ما تعول عليه الادارة الاميركية من مركزية الاعلام (الحر او على الاقل المستقل) في تنمية المجتمعات وتعزيز الديمقراطية المرادة، فيقول هيس بالنص: «الوسائل الاعلامية المستقلة والمساءلة امور ضرورية. للوسائل الاعلامية دور حساس تلعبه باعتبارها عنصرا اساسيا في المجتمع المدني. تكون هذه الوسائل في الديمقراطيات حرة ولا تسيطر عليها الدول، وهذا يسمح بظهور آراء ووجهات نظر متعددة يجري نشرها في ساحة سوق الافكار. ان افضل حماية ضد الافكار التي تنشرها وسائل الاعلام ولا يوافق عليها الناس هو نشر اكبر عدد من وجهات النظر بدلا من اسكات الاصوات الاعلامية. على وسائل الاعلام المستقلة في الوقت نفسه مسئوليات، كما على الحكومات والمواطنين مسئوليات. فعليها دعم المعايير المهنية والتشديد على تقارير تكون مستندة إلى حقائق، وعليها التثقيف وليس فقط الدعوة إلى القضايا».

مثل هذه الافكار هي افكار مثالية، ولابد من الاعتراف ان المهنية في معناها العام موجودة في الاعلام الغربي الذي يسمى الاعلام الجاد، الا ان ما يؤكد اهميتها هو وعي المواطنين بما يقبلونه او يرفضونه مما يقدم إليهم، وايضا هذا لا يعني انه لا تتوافر (حفلات) في الاعلام (المنظم) الذي يتساوى مع اي اعلام منظم في دول العالم الثالث.

حقيقة الامر اننا امام معضلة سياسية وأخلاقية. ففي الوقت الذي يقال لنا ان استقلال الاعلام وحياديته ومهنيته من الضرورات للديمقراطية المبتغاة، نرى امام اعيننا كيف تنزل بعض وسائل الاعلام الغربية إلى الحضيض في تبادل التنابذ فيما بينها وتجر المجتمع خلفها بعد ذلك لتصديق ما تقول.

في الحرب الضحية الاولى هي الحقيقـة، لذلك تجد ان البعض يتحمس او يعارض بسبب ما سمع من ضخ اعلامي قد يكـون الكثير منـه يفتقد ابسط الحقائق

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 172 - الإثنين 24 فبراير 2003م الموافق 22 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً