العدد 172 - الإثنين 24 فبراير 2003م الموافق 22 ذي الحجة 1423هـ

من لم يعرف القلق... فليرمه بحجر!

من دور المجانين إلى مستشفى الطب النفسي

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أثارت قضية مقتل الشاب البحريني في البلاد القديم طعنا بالسكين مسألة مهمة تستوجب التوقف عندها على أكثر من صعيد. فإلى جانب الهزة التي أوقعتها بمجتمع القرية (الذي كان مطمئنا) نتيجة غموض الدوافع وعدم وجود مبررات تستدعي الإقدام على مثل هذا السلوك العنيف الذي يؤدي إلى القتل، فإن المسألة تستدعي التوقف ومراجعة الحسابات.

ما حدث أشبه برسالة تذكير مرتفعة النبرة من هذه الفئة المنسية التي نمر بها كل يوم، ولا نلتفت إليها ولا نكترث لوجودها وكأنها غير موجودة على الإطلاق. لقد حان الوقت لأن نسمع هذه الفئة المنسية القابعة في ظلمات ثلاث، ظلمة المرض والليل والجهل المحيط، بعد أن مكثت في العتمة طويلا، كأن القائل منهم يقول: «أنتم أيها الأسوياء، ويا من تعتبرون أنفسكم أسوياء وأصحاء وعقلاء، حان الوقت لأن تسمعوا صوتنا، يا من لا تتورعون عن وصفنا بالجنون. افهمونا، فهناك فرق بين المرض النفسي والجنون، فأي منكم معرض في هذا الزمن الصعب للإصابة أو العدوى، ليس أحد منكم آمنا ومحصنا من أمراض العصر... فمن منكم لم يعرف القلق في حياته؟ فمن لم يعرف القلق، فليرمنا بحجر».

الألغام الأرضية

هناك فئة منسية تعيش في قاع المجتمع، لا بمعناه الاقتصادي من حرمان وفقر وبطالة مع ان لذلك مسا بالموضوع، وإنما لارتباطه بالوعي العام وطريقة تعاطينا نحن المجتمع مع هذه الفئة. والمشكلة هي ان المريض النفسي لم يكن ليكترث له أحد لو لم يقم بعمل مزعج أو عنيف، هنا يسمع صوته وتستدير له الرؤوس، وإلا سيعيش في الظلمة والنسيان.

الحروب الحديثة تنتهي ولو بعد حين، ولكنها تخلف وراءها ألغاما أرضية تظل قابعة تحت السطح، لا يدري بها أحد ما لم يعبر عليها أحد الأبرياء فتنفجر فيه ويدفع حياته أو جزءا من أطرافه ثمنا لذلك. في اللغم «العسكري». الضحية يذهب إلى حتفه بقدميه من دون أن يدري، أما في اللغم البشري فانه يأتي إليه وهو ساهٍ في سبحانيته، كما حدث في البلاد القديم، مشغول بالعمل في منزل والده تحت التشييد، فما كان منه غير الترديد تحت وقع الصاعقة: «لماذا؟ أنا ما عملت شيئا يا إبراهيم». ولو كان شكسبير شاهدا لمثل هذا الحدث لتوقف كثيرا أمامه ليكتب عنه مأساة باسم «مجيد»، كما كتب عن «ماكبث» أو «هاملت» أو «الملك لير». لكن مهما كانت روعة مسرحيات شكسبير فانها لا ترتقي إلى فاجعة البلاد القديم. فهي أقرب إلى العبث الصارخ الذي لم تجد له عائلة الضحية ولا عائلة المتهم من تفسير أو تبرير.

هنا دار المجانين!

عند لقائي الطبيب النفسي الذي أشرف على علاج المتهم، بادرته بعد السلام بقولي مازحا: «هذه إذن هي دار المجانين؟»... فبدا عليه الانفعال ورد قائلا: «لا، لا أحد في البحرين اليوم يسميها دار المجانين، الوعي في البحرين تجاوز ذلك، فتسميتها الرسمية هي مستشفى الأمراض النفسية». وتحاشيا للابتعاد عن الهدف المقصود أجبت: «عموما، لقد جئتك من بيئة وقعت فيها حادثة قتل هزتها، ولا تزال لا تفرق بين المرض النفسي والجنون، إذا صح ان المتهم كان يعاني من مرض نفسي».

ولعل هذا الفهم يمثل خير تمثيل الفجوة التي تفصل الإدارة أو المسئولين في هذا المجال - كما في مجالات أخرى كثيرة - عن واقع المجتمع، فلا يكفي أن نمتلك أرفع الشهادات وندرب الأطباء على أعلى مستوى عالمي، ولكنهم يبقون في واد نظري بعيدا عن الواقعيات، معتقدين أن الناس على وعي بالأمراض النفسية. كما لا تكفي المحاضرات واللقاءات التلفزيونية في نشر الوعي، معتقدين أن الوعي يتناسب طرديا مع زيادة عدد المحاضرات واللقاءات التلفزيونية والإذاعية، فلنقلها بصراحة: كم من الجمهور البحريني يحرص أصلا على مشاهدة برامج «قناة العائلة العربية»؟ وكم من هذا الجمهور يهتم بالموضوعات الجادة؟ وكم من هذا الجمهور سيواصل الاستماع للمحاضر حتى نهاية حلقة تتحدث عن الأمراض النفسية؟ لنكن واقعيين، وننظر إلى الموضوع من زاوية أكثر عمقا، لئلا تكون أحكامنا أسيرة الأرقام الصماء.

الوعي الغائب

إذن: المسألة الأولى ترتبط بالوعي الاجتماعي، فخلال السنوات السابقة وقعت حوادث قتل مرتبطة بالمرضى النفسانيين، وبعضهم حاول الانتحار، والكثيرون منهم يقومون بأعمال عنيفة ضد الأقارب أو حتى مع الغرباء. والمجتمع الذي لا يفرق بين المرض النفسي والجنون لا تطلب منه ان يتصرف التصرف اللائق أو المطلوب، فأنت كمن يعطي طفلا لفتاة تفتقر إلى الخبرة في التربية لتربيه. اعطه الوعي أولا ثم حاسبه على الخطأ. إنما حادثة القتل بهذه الصورة العنيفة يمكن أن تنبه الجميع إلى مصدر خطر لم يكن واردا في الحسبان.

في أعقاب نشر التحقيق السابق الذي ألقى الضوء على أبعاد المشكلة، حدثني الكثيرون عن أشخاص يعرفونهم ويعانون من الأعراض والأمراض نفسها. أحدهم سرد لي قصة زميله بالمدرسة، والذي كان سبب عقدته أو «مرضه» هو وجود «خال» أو «شامة» على أنفه، وكان كثيرا ما يعاب ويسخر منه، والنتيجة سقوطه ضحية هذا المرض الغامض منذ أكثر من 10 أعوام.

شاب آخر تخرج في الجامعة وعمل مدرسا لإحدى المواد العلمية، فقد كان ذكيا، وفي بداية تعيينه حدثت مشكلة في الفصل، وحضر المشرف لحلها، وبدل أن يحل مشكلة التلاميذ خلق مشكلة للأستاذ، حين استهزأ به أمام تلاميذه لانه لا يزال «جاهلا لا يعرف التصرف» بحسب تعبيره، ولم يغادر الأستاذ المدرسة إلى منزله ذلك اليوم فحسب بل غادر الحياة الدنيا وزينتها، لينزوي في غياهب المرض النفسي لأكثر من 15 عاما. لو كان لنا قانون شامل يتتبع كل أنواع الجرائم، فما هو حكم القاضي في مثل هذه القضية يا ترى؟

هذا الوعي الغائب نراه سببا في مآس أخرى، احداها قصة شاب سجين سياسي في بداية الثمانينات، أصيب بمرض نفسي على إثر اعتقاله من منزله بعد منتصف الليل، وأخذ يهلوس ويهذي منذ بداية الصدمة، وهو ما فسره رجال الشرطة على أساس انه محاولة للتهرب من السجن، فما كان منهم إلا أن عاملوه بقسوة وعنف ظنا منهم أنه الاسلوب الأمثل لمعالجة ما يثيره من شغب وفوضى. والنتيجة أنه ظل يتعذب في السجن ستة أعوام، إذ قضى نحبه في زنزانة انفرادية في شهر أغسطس/ آب 1986، رحمه الله.

وبعيدا عن السياسة، أريد التذكير بالوعي الغائب فحسب، وهو ما يوجب التفكير الجدي في طرق معالجة هذه القضايا، وخصوصا ان الأمراض النفسية أصبحت وباء في هذا العصر الذي تقدمت فيه عجلات المادة وتأخرت فيه الروح. بل ان الأمراض الجسدية نفسها كثيرا ما ترتبط بجوانب نفسية، من ارتفاع ضغط الدم والسكري وغيرهما مما تعرفون. فإذا غاب الوعي من المدرسة، ومن المؤسسة العقابية، ومن العائلة والمجتمع، لابد أن يصدم الجميع حادث قتل غامض وغريب لأنه لم يُعرف له سبب أو تبرير.

بين الطب الجسدي والنفسي

الطب الجسدي علم له تاريخ عريق وإرث قديم، فهو يمشي ويسحب وراءه خبرة الأمم السالفة، الكل ساهم فيه بمقدار، من اليونان والصينيين والهنود والمصريين والمسلمين، حتى الشعوب التي يسمونها «بدائية» اليوم كانت لها معرفة طبية بمستوى ما بلغته من مستوى نتيجة الخبرة. وكذلك سكان القارة الأميركية الأصليون (الهنود الحمر) بلغوا مستوى متقدما في ميدان معالجة الأمراض.

إذن: الطب الجسدي له تاريخ طويل وتراكم معرفي، يعود إلى خمسة آلاف سنة، وله تقاليد مرعية وجامعات متخصصة قائمة بذاتها ومؤسسات متخصصة يرعاها المجتمع والدولة وتقدم خدماتها المجانية إلى الناس. ومن أبرزها (البيمارستانات) في عهد الدولة العباسية التي كانت تذهل الأجانب من زوار العالم الإسلامي. كل ذلك تكون حصيلته مزيدا من التقدم ومزيدا من التخصص... ولكن ماذا عن الطب النفسي؟

علم حديث نسبيا، فهو لا يزال وليدا، ربما لا يتجاوز عمره 150 عاما، فهو ما زال يحبو إذا ما قورن بأخيه الكبير الذي تخرج في الجامعة. ربما يقول البعض ان بعض الأطباء القدامى عرف عنهم معالجة بعض الأمراض النفسية، ويستشهدون بابن سيناء مثلا، ولكنها تبقى قصصا متفرقة، لا ترقى إلى العلم إذا ما قورنت بالممارسة العملية للطب الجسدي القائم على التجربة. فضلا عن ذلك صعوبة تشخيص الأمراض النفسية، وذلك عائد في جانب رئيسي منه إلى تداخل العوامل المؤثرة وتعقد الأسباب. فأنت ستعلم أطفالك ان الخروج في الجو البارد مباشرة بعد الاغتسال سيعرضهم إلى البرد والانفلونزا، ولكن قد يغيب عنك أن «التعليق» العابر على شعر طفلتك الخفيف أو شامة في خد طفلك يمكن أن يؤدي بهما إلى عقدة أبدية تصحبهما إلى القبر.

الزمن غير الزمن، والأوضاع غير الأوضاع، الطمأنينة انسحبت امام هجوم المادة و«متطلبات الحياة العصرية». القناعة التي كانت تميز حياة آبائنا وأجدادنا فتساعدهم على تحمل شظف العيش وجشوبته... لم تعد من مفردات حياتنا اليومية. وأمام التيارات العاتية نواجه الحياة ببرامج «تلفزيون العائلة العربية»، الجميلة،المنوعة، من أفلام رعب وقتل وعنف وعرض أجساد، معتقدين أن الناس لم يعودوا يسمون مستشفى الأمراض النفسية «دار المجانين»

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 172 - الإثنين 24 فبراير 2003م الموافق 22 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً