من الأفكار التي طُرحت في الولايات المتحدة بعد ضربة 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في محاولة لتفسير الأسباب التي دفعت إلى تدمير المركز التجاري في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن فكرة «الكراهية». إنهم يكرهون أميركا: هكذا قالت بعض وسائل الإعلام ورددت كلامها بعض الجهات الرسمية في إدارة البيت الأبيض.
إنهم يكرهون أميركا. فكرة أجمع عليها الكثير من الباحثين في مجال علم السياسة. وانقسم الإجماع على تفسير الفكرة. لماذا يكرهون أميركا؟ الانقسام على «لماذا» جعل الاتفاق ينقسم إلى مدارس واتجاهات. فهناك من نسب الكراهية إلى السياسة الأميركية. وهناك من نسبها إلى الاقتصاد. وهناك من نسبها إلى الحسد والغيرة (شعوب العالم تحسد أميركا وتغار منها) لذلك قرر الحاسدون تدمير رموز أميركا.
أسوأ التفسيرات تلك التي فسرت الكراهية بالكراهية. إنهم يكرهوننا لأنهم يكرهوننا. فالكراهية لا تحتاج إلى سبب. وهي نتاج النفس البشرية الشريرة التي تنتج عداوات لأن جبلتها الأصلية تأسست على الكراهية. فالكاره ليس بحاجة إلى سبب لكراهيته. فهو يكره فقط ولا مجال لمعالجة ذاك المرض لأن لا أسباب له سوى وُلد معه وعاش معه ويموت معه. فالموت هو الحل الوحيد للكارهين وغير ذلك هو مجرد لعب خارج حقل الزمن. فالكراهية المتأصلة في النفس البشرية تحتاج إلى حل وحيد هو الاستئصال عن طريق القتل لإنقاذ الإنسانية كلها من هذا النوع «الشرير» من البشر.
أسوأ التفسيرات في قراءة أسباب الكراهية هو الرأي الذي اعتمده أشرار الحزب الجمهوري الحاكم في البيت الأبيض. «علينا أن نقتلهم قبل أن يقتلونا». هذا هو الشعار السياسي الذي تحول إلى استراتيجية أمنية تقوم على مبدأ عسكري تقول خلاصته بـ «الضربة الاستباقية».
استراتيجية «الضربة الاستباقية» هي من أخطر المبادئ الأمنية التي توصل إليها أشرار الحزب الجمهوري. وهي استراتيجية تقوم أصلا على فكرة افتراضية تبرر كل السياسات من دون حاجة إلى غطاء قانوني أو سبب شرعي. فالفكرة ليست بحاجة إلى أدلة. فقط تحتاج إلى بعض التخمينات والربط الاعتباطي بين هذا «الشيء أو ذاك» للاستنتاج بأن هناك «شبكة» تنسج «مؤامرة» قد تقع أو لا تقع... ولكن يجب ضربها حتى لا تتجمع وتتشكل وتفكر يوما ما في أنها قادرة على «الغدر» بنا.
«الضربة الاستباقية» فكرة مرضية أساسها مجموعة هواجس تفترض وجود نوع من «المؤامرة الدائمة» ضد نموذج ناجح وفر الرخاء والرفاهية وأثار حسد الحاسدين وكره الكارهين.
و«المؤامرة الدائمة» تفترض أو تفرض قيام «يقظة دائمة» تنتبه وتتوقع من طريق الحدس لا المعلومات وجود خطة ما للهجوم أو الغدر... وهذا بدوره من الأسباب الكافية، برأي أشرار الحزب الجمهوري، للهجوم الاستباقي وافتعال الأزمات وتبرير الحروب من دون حاجة إلى تقديم الذرائع والأدلة. فالحرب الدائمة هي الوسيلة الدائمة لمنع تشكل «المؤامرة الدائمة».
هذا التفكير الاستراتيجي هو أساس العقيدة الأمنية التي اعتمدها الرئيس جورج بوش بناء على نصائح أشرار الحزب الجمهوري. فهي برأي الأشرار الحل الوحيد و«النهائي» كما كان يقول هتلر في خطبه النارية في عهد ألمانيا النازية.
فالنازية في أساسها قامت على فكرة «المؤامرة الدائمة»، على تفوق العرق الجرماني. وهتلر كان يرى أن سر نجاح ألمانيا يعود إلى تفوق عرقها وانحطاط أعراق الشعوب الأخرى الأمر الذي جلب الحسد والكراهية. والحل برأي هتلر هو استئصال الآخر عن طريق ضربه بالقوة قبل أن تتجمع قواه ويفكر في النيل من نجاح ألمانيا وتفوقها.
وبسبب التفكير المرضي لهتلر تضخمت فكرة المؤامرة في سياسته اليومية وتحولت إلى استراتيجية عسكرية هجومية تقوم على نظرية بناء الجيوش التي تتكفل وحدها باستئصال الكراهية والحسد عن طريق الموت قتلا.
هاجس «المؤامرة الدائمة» عند هتلر أسهم في تشكيل نظرية أمنية تقوم على استراتيجية «الضربة الاستباقية». أي افتعال الحرب من دون مبرر قانوني ومن دون وجود معلومات وأدلة تعطي ذريعة وشرعية للهجوم. والنتيجة كانت قيام الحرب العالمية الثانية التي ذهب ضحيتها 45 مليون نسمة وانتهت بتدمير ألمانيا وانهيار النازية.
نظرية هتلر العسكرية استعادها أشرار الحزب الجمهوري وتحولت إلى عقيدة أمنية تعتمد استراتيجية «الضربة الاستباقية» أي انها تفسر نفسها بنفسها (الكراهية بالكراهية والحرب بالحرب) وليست بحاجة إلى مقارنات ووقائع. فهي تعتمد على فرضيات واحتمالات وتوقعات قد تحصل أو لا تحصل ولكن يجب اتخاذ الحيطة والحذر حتى لا تنجح «الشبكة» في نسج مؤامراتها.
خاض هتلر الكثير من الحروب تحت وقع «الضربة الاستباقية» حتى ان قادة جيشه كانوا ينصحونه بعدم توسيع دائرة معاركه (بولندا، بلجيكا، فرنسا، وأوروبا الشرقية)، إلا أن هتلر كان يتحرك في ضوء مرض هاجس المؤامرة لا نصائح ضباطه. فكانت النهاية.
نظرية «الضربة الاستباقية» استراتيجية عسكرية خطيرة تقوم على مبدأ اعتماد القوة وحدها... وهي تبدأ ضد الضعفاء (أفغانستان والعراق) وتنتهي ضد الأقوياء. هكذا فعل هتلر وبوش يكرر الأمر نفسه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 172 - الإثنين 24 فبراير 2003م الموافق 22 ذي الحجة 1423هـ