إن «الرابحين» الرئيسيين في عالم ما بعد 11 سبتمبر/ ايلول هم اسرائيل وروسيا وتركيا. فهذه الدول الثلاث كانت هي الأكثر حظا في الاستفادة من الحملة الاميركية ضد الارهاب بعد حوادث سبتمبر/ ايلول. فقد استغلت روسيا مركزها إلى أبعد الحدود لتصبح جزءا لا يمكن الاستغناء عنه في العمليات العسكرية ضد أفغانستان ومن خلال السماح للولايات المتحدة باستخدام القواعد العسكرية في أوزبكستان، أما تركيا، التي تعتبر الفائز الايجابي والأكثر حظا وأهلية بالمقارنة مع اسرائيل وروسيا، فقد استفادت من كونها جزءا من الحملة العسكرية على افغانستان ومن خلال الدور المهم الذي ستلعبه في أية حملة مستقبلية ضد العراق. أما «اسرائيل» التي تراجعت صدقيتها في الاسابيع الأولى من حوادث 11 سبتمبر 2001 فقد استردت هذه الصدقية بسرعة كبيرة وساعدها في ذلك فشل السلطة الفلسطينية في احتواء حوادث العنف ضد المدنيين الاسرائيليين. ولكل من هذه الدول، تركيا و«اسرائيل» وروسيا، أجندتها الخاصة بها غير مكافحة الإرهاب كما تحدده واشنطن. ولقد نجحت كل من هذه الدول في دمج عناصر مختلفة من أجندتها ضمن مساهمتها في الحرب ضد الإرهاب.
على الدرجة نفسها من الاهمية يأتي التحالف الوثيق بين هذه الدول، ومبادئها الاستراتيجية وعلاقاتها مع المحافظين الجدد. فقد بدأ التحالف التركي الاسرائيلي في العام 1996، وازدهرت العلاقة بسرعة وتطورت لتشمل كل الجوانب الثنائية بين البلدين، وهي التعاون في المجالات العسكرية والامنية والاقتصادية والطاقة.
وتقوم جماعات الضغط الاسرائيلية في الولايات المتحدة بالترويج للمصالح التركية، فيما دعم المحافظون الجدد تعزيز العلاقات التركية الاسرائيلية منذ البداية. اما «التعاون» الاسرائيلي - الروسي فيشمل قطاعين رئيسيين هما اسواق رأس المال والطاقة. ولقد توغلت اسرائيل في هذين القطاعين داخل الاقتصاد الروسي. ويلعب التحالف الاسرائيلي - الروسي، تماما كالتعاون الاسرائيلي - التركي، دورا في الساحة السياسية الاميركية من خلال المحافظين الجدد واللوبي الاسرائيلي. وذلك هو السبب في الترويج لروسيا بديلا لنفط الشرق الاوسط والاهتمام الكبير الذي تحظى به شركات النفط الروسية التي تمت خصخصتها حديثا. واخيرا، يتركز «التعاون» الروسي - التركي بشكل اساسي في قطاع الطاقة إذ تتطلع روسيا إلى أن تصبح الممول الرئيسي للغاز في السوق التركية، فيما تتطلع الشركات الروسية إلى الاستثمار في القطاع التجاري والسوق المحلي في تركيا مقابل مشاركتها ودعمها واستثمارها في البنية التحتية التركية والاسواق المحلية ويتوقع لروسيا ايضا ان تلعب دورا في جلب النفط من بحر قزوين إلى تركيا وإلى الغرب بواسطة تركيا.
في المناخ الاستراتيجي الحالي تم التقليل من شأن الدور الذي قد تلعبه الكثير من الدول الاخرى. ومعظم الدول الاوروبية التي تنتقد شفهيا السياسة المتفردة التي تنتهجها الولايات المتحدة، هي فعلا عاجزة أو غير راغبة في معارضة المبادرات الاميركية بشكل قاطع. وحتى اكثر المعارضين الاوروبيين صخبا للسياسة الاميركية لا يملكون اجراءات مضادة ومحددة. وقد يكون لحلفاء الولايات المتحدة من الاوروبيين تأثير لو توافر لديهم البديل الملموس لتقديمه، أو اذا ادركت واشنطن الحاجة إلى اتخاذ إجراء بمشاركة اطراف متعددة وحاولت تشكيل تحالف واسع ذي قدرة على الاستمرارية. إلا ان الاتجاه الذي يتبعه الصقور المتشددون يجعل من هذه الفرضية امرا غير محتمل إلا في اضيق نطاق، وبالتالي يستبعد اي دور اوروبي له اثر هادف ومعتدل.
ويعيدنا هذا إلى الولايات المتحدة وإلى النقاش الدائر عن مدى حاجة الولايات المتحدة إلى مساعدة فعلية، سياسية أو عسكرية، من حلفائها قبل شروعها في هجوم عسكري آخر في الشرق الاوسط. وباختصار، لن يكون لاوروبا اي تأثير حقيقي على السياسة الاميركية في الشرق الاوسط ما لم يخسر المحافظون الجدد معاركهم السياسية على الجبهة المحلية بشأن القضايا الآتية: (أ) التوجه الفردي مقابل الجماعي بالنسبة إلى العمليات العسكرية، (ب) تفضيل الضربات الوقائية على شن حرب ضد تهديدات مباشرة وموكدة. وإلى ان تحسم هذه النقاشات اميركيا، فإن الدول الاوروبية ستبقى إلى حد كبير مراقبا سلبيا للمبادرات السياسية والعسكرية الاميركية.
بخلاف اوروبا، فلا اليابان ولا الصين في موقع يؤهلهما لاتخاذ اجراء مباشر ضد المبادرات الاميركية. اما باكستان، فعلى الارجح انها ستتعاون مع الولايات المتحدة بدلا من معارضتها. واما الهند التي تعتبر نفسها حاليا حليفا للولايات المتحدة فستدعم واشنطن عندما تتعلق المسألة بالقضايا السياسية والعسكرية في الشرق الاوسط. هذه الدول، فضلا عن اروبا، ستعلب دورا اقتصاديا وتجاريا مهما في المنطقة، وهي وإن كانت ستعمل جاهدة لحماية مصالحها التجارية إلا انها لا تملك القوة اللازمة لمواجهة الولايات المتحدة عاقدة العزم وذات نزعة انفرادية.
قرب الخليج تقبع ايران التي تواجه تحديات خطيرة على مستويين، فهي تواجه صراع القوى بين المحافظين والاصلاحيين، وتواجه تنامي الضغوط الاقتصادية. فالجمود السياسي في اعلى قمة الهرم السياسي في ايران حال دون تحقيق اي تقدم مادي ملموس في الاصلاحات الاقتصادية ما ادى إلى استياء شعبي واسع. اما على الصعيد الخارجي فإيران تجد نفسها محاطة بما تعتبره دولا حديثة الانضمام إلى الفلك الاميركي وهي افغانستان وباكستان وبرويز مشرف والهند واوزبكستان وربما قريبا العراق. وفي الوقت نفسه اصبحت روسيا وتركيا اللتان تعاظمت قوتهما جزءا من المشهد الجيوبوليتيكي الناتج عن مرحلة ما بعد 11 سبتمبر لإيران، تماما كما الأمر بالنسبة إلى دول الخليج العربية. واخيرا، هناك الاسرائيليون والاميركيون المناهضون لايران في الولايات المتحدة والذين يمارسون ضغوطا متزايدة لاستهداف حزب الله وايران كجزء من الحملة على الارهاب. هذا المزيج من الضغوط الداخلية والاخطار الخارجية الحقيقية أو المستشعرة لا تبشر بالخير بالنسبة إلى خطوات ايران المستقبلية. فقد تؤدي هذه الاوضاع إلى تزايد التطرف الايراني بما سيؤدي إلى اجهاض الجهود الاصلاحية للرئيس محمد خاتمي من جانب، وتعزيز مراكز وسياسات صقور المحافظين الجدد في الولايات المتحدة من جانب آخر، وذلك باتجاه مواجهة وصراع.
في غياب المبادرات والاجراءات الجذرية والبناءة في الشرق الاوسط، فإن الساحة جاهزة لرسم مستقبل المنطقة من دون الاخذ في الاعتبار المصالح العربية والايرانية. وذلك يعني ان التحالف الاسرائيلي - التركي المدعوم من صقور المحافظين الجدد ورؤيتهم التي اتينا على شرحها سابقا، سيكون لهم الاثر الاكبر على مستقبل المنطقة. هذا يتطلب من المنطقة تحركا سريعا وامتحانا حقيقيا للقدرات وانفتاحا اصلاحيا داخليا.
أين مكمن الخطر؟
لعل من المستحيل التنبؤ بالمسار الدقيق للحوادث التي ستقع في الشرق الاوسط، ولكنه ليس من قبيل المبالغة القول ان هناك احتمالا لحدوث تغييرات اساسية في الاوضاع القائمة مع تغير جذري في ميزان القوى الحالي وربما في خريطة الشرق الاوسط برمتها. وفي اكثر الاحوال تطرفا ليس من المستبعد توقع عراق مقسم، تحتل تركيا الجزء الشمالي منه ويقسم الباقي منه ليدخل بعد ذلك في دوامة من الاضطرابات والهيجان.
وهذا من شأنه ان يفتح جبهة جديدة لصراع بين العرب وغيرهم، لن تقل حساسية وإثارة للجدل عما هي عليه جبهة الصراع العربي الاسرائيلي منذ 54 عاما، وهذا سيكون مصدرا وشيكا لعدم الاستقرار في دول الخليج، فضلا عن انه سيكون سببا لاضطرابات جديدة في ايران وسورية. كما انه ليس من المستبعد توقع ان تتوسع «اسرائيل» التي استغلت انشغال العالم بالحرب ضد العراق لتضم الضفة الغربية فعليا، ما قد يؤدي إلى نزوح كبير للاجئين الفلسطينيين إلى الاردن وغيرها من الدول العربية. ومن المتوقع في مثل هذ المناخ أن يصبح الشارع العربي اكثر تطرفا واحباطا بحيث لا يمكن احتواؤه بالوسائل التقليدية المتبعة حاليا. اما الدول الخليجية «المعتدلة» فحتى وإن استطاعت الصمود امام ردود الفعل الاولى، فإنها لن تكون في وضع تستطيع فيه تأييد الغرب علنا، وربما تجد نفسها مرغمة على اللجوء إلى «سلاح النفط» مرة اخرى وهي تعلم جيدا أن تلك الخطوة قد تثير هذه المرة المزيد من العدائية واحتمالات التدخل العسكري في المنطقة ما قد يؤدي إلى تغييرات لا يمكن التكهن بها. وباختصار، فإن نظام ما بعد الحرب يمكن ان يختفي برمته من المنطقة ويحل محله نظام آخر جديد تقابله خريطة سياسية جديدة.
حتى السيناريوهات الاقل مغالاة تعطي صورة متفائلة عن مستقبل الاستقرار والازدهار في المنطقة، إذ تبقى الحقيقة الاساسية وهي ان حرب الخليج الاخيرة شنت لحماية الاوضاع القائمة في المنطقة بينما حرب الخليج المقبلة ستشن لتدمير هذه الاوضاع. ومهما أتت النتائج مختلفة بعض الشيء عما تم وصفه بالنسبة إلى العراق و«اسرائيل» فهي لن تغير الدافع الخفي للحرب. ومحاولة خلق واقع جديد وتغيير اوسع على الارض يصعب ان يصب لمصلحة دول المنطقة. فسلبية دول المنطقة، التي ستكون الاكثر تضررا من هذه التغييرات، خلقت فراغا خطرا وتخلت عن دورها وفرصتها في ان تكون لها كلمتها في عملية التغيير هذه.
وان تعزية النفس على الصعيد العربي بافتراض عدم احتمال حدوث السيناريو الاكثر تطرفا أو الافتراض ان السيناريو الاقل تطرفا ينطوي على مخاطر اقل على الاوضاع القائمة، هي عبارة عن حال من حالات نكران الواقع
إقرأ أيضا لـ "فاهان زانويان"العدد 171 - الأحد 23 فبراير 2003م الموافق 21 ذي الحجة 1423هـ