العدد 171 - الأحد 23 فبراير 2003م الموافق 21 ذي الحجة 1423هـ

«عصبة الدول الإيطالية» و«جامعة الدول العربية»

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

في العام 1814 قررت الدول المسيطرة على أوروبا آنذاك وضع «الدول الإيطالية» تحت السيطرة النمساوية. وعليه تم إلحاق دولتين إيطاليتين بالنمسا، وتم ترتيب أوضاع تسع دول إيطالية أخرى باعتبارها ممالك وإمارات وجمهوريات بالإضافة إلى مناطق أخرى موزعة على أساس النفوذ، وأنشئت مجالس شورى من دون صلاحيات، وربطت مصالح تلك الدول بالنمسا وغيرها من الدول الأوروبية الكبرى آنذاك من دون وجود تكامل بين الدول الإيطالية ذاتها. ومباشرة بعد ذلك انتشرت الحركات السرية التي سعت إلى ربط الدول الايطالية وتوحيدها ضمن نظام واحد. وتبع ذلك ثورات وانتفاضات وانقلابات في هذه الدولة الإيطالية أو تلك، وكان الإيطاليون يشعرون بالإهانة لأن دولهم عاجزة عن حماية مصالحهم. فـ «الأمة الإيطالية» كانت مشغولة بالخلافات بينها وكانت تحرص على الارتباط بالقوى الخارجية بدلا من الارتباط ببعضها بعضا. بعد العام 1820 أصدرت الحكومات الإيطالية قوانين صارمة لمواجهة القوى الثورية، وتمت تصفية القيادات غير الموثوق بها في الجيش والشرطة والقضاء والإدارة العامة، وتم نقل جميع الصلاحيات إلى الأمراء، وأدى ذلك إلى هجرة أعداد كبيرة من الإيطاليين من بلادهم خوفا على أنفسهم.

وفي الثلاثينات من القرن التاسع عشر، نشأت حركة تدعو إلى توحيد جميع الدول الإيطالية وكتابة دستور موحد، وقامت بعض الشخصيات التي هاجرت قبل سنوات إلى بلدان أخرى مجاورة بقيادة تلك الحركة. في العام 1846 أفرج عن المعتقلين السياسيين وأجريت إصلاحات في الإدارة، وأنشئت مجالس شعبية ذات صلاحية أكبر. وفي العام 1847 تم تأسيس «عصبة الدول الإيطالية» لتوحيد الجمارك بين الدول التي لم تستطع الاتفاق على شيء آخر بينها. إلا أن النمسا (الدولة التي كانت تعتبر قوة كبيرة في أوروبا آنذاك) اعتبرت ذلك الاتحاد الجمركي خطرا عليها ما أدى إلى حدوث حروب صغيرة هنا وهناك، وأدت الخلافات وتدخّل النمسا إلى انهيار الاتحاد الجمركي، واستمر التدخل النمساوي في الشئون الإيطالية حتى العام 1859. بعد ذلك بدأت حرب التحرير التي شنتها القوى الثورية الإيطالية بمساندة فرنسا آنذاك، التي كانت لها سياسات ومطامع مخالفة للنمسا، واستمر الوضع الإيطالي حتى العام 1874 عندما تم توحيد الدول الإيطالية في دولة فيدرالية واحدة متحالفة مع النمسا وألمانيا (بعد توحد الدول الألمانية). عندما نتطرق إلى الإيطاليين وكيف كانوا يعيشون في دول متفرقة لا تستطيع الاتفاق على شيء، وعندما اتفقت على اتحاد جمركي لم ترضَ عنه القوة االاوروبية التي كانت تتدخل في شئونهم، ثم نشوء الحركات الثورية والقمع والانتفاضات المضادة... الخ، فهل نحن نقرأ شيئا مشابها لما يحدث لنا في دولنا العربية التي تشبه إلى حد ما الدول الإيطالية؟

في اعتقادي أن الدول الإيطالية المتفرقة لو كانت في عالمنا العربي ربما حدث لها ما يحدث لنا. فالقرن التاسع عشر ليس هو القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. الدول الإيطالية لم تكن لديها قدرات أمنية ومخابراتية كما هو حال الدول العربية التي فشلت في كل شيء الا في تطوير أجهزة أمنها ومخابراتها فيما يخص الشأن الداخلي فقط. كما أن الدول الإيطالية كانت تعيش بين دول متوازنة المصالح، وليس مع دولة مسيطرة واحدة تأخذ القرار وتنفذه. فالفرنسيون كانت لهم مطامع وسياسات متناقضة مع غيرهم من القوى الأوروبية وبالتالي كان بإمكان الحركات الثورية الإيطالية الاستفادة من ذلك. أما الحركات الثورية العربية فقد كانت ضعيفة حتى أيام الحرب الباردة بسبب اختياراتها الفكرية التي رمتها بعيدا عن جذور الأمة، تلك الجذور الضاربة في عمق الحضارة الإسلامية. والحركات المطالِبة بالإصلاح تم انهاكها في البلاد العربية بمساندة القوى المسيطرة على اللعبة الدولية. وهكذا وصلنا إلى حالنا الذي نراه... الولايات المتحدة تقرر شن حربها على العراق لتغيير نظامه وإعادة صوغ الشرق الأوسط بعد ذلك من دون الاكتراث برأي الشعوب والحكام. والولايات المتحدة كانت دائما لا تعترف برأي شعوب المنطقة، ولكنها كانت تحترم آراء أصدقائها الذين يحكمون عددا من الدول المهمة في المنطقة. أما الآن فآراء الجميع غير معتبرة وغير داخلة في حسابات القرار.

أيام «عصبة الدول الايطالية» كان هناك ما أطلق عليها «الحفلة الموسيقية الأوروبية» وتعني أن السياسة الأوروبية، بصراخها وهتافاتها وتحركاتها، كانت كالمعزوفة الموسيقية التي تلتحم فيها الأصوات والحركات لتخرج لنا سيمفونية واحدة. أما عالمنا اليوم فلا يوجد إلاّ عازف موسيقي واحد (الولايات المتحدة الأميركية)، وهذا العازف يذهب إلى قاعة الغناء (الأمم المتحدة) ليعزف سيمفونيته لوحده، بينما الآخرون يصفقون طمعا أو يرتجفون خوفا. بعد مئة عام من تأسيس «عصبة الدول الإيطالية» تأسست «جامعة الدول العربية»، ولكن هناك اختلافا بين الأمرين. «العصبة» تأسست وماتت وأعلنت القوى الإيطالية موتها عندما ماتت. أما الجامعة فهي ميتة ولكن لا يستطيع أحد اعلان موتها، ربما لأن الموت والحياة متساويان، وربما لأن هناك إباء يأبى إعلان الموت لأن الأمل في الحياة المستقبلية مازال موجودا...

بعد مئة عام وعشر سنوات من تأسيس «عصبة الدول الايطالية» تأسست «السوق الأوروبية المشتركة» في العام 1957، وتوسعت هذه السوق المشتركة وأصبحت اتحادا أوروبيا بعضوية إيطاليا والنمسا، مع فارق أن النمسا ليست هي الدولة السابقة، بل ان اقتصادها يعادل قرابة ربع الاقتصاد الإيطالي، وإيطاليا - المتفرقة سابقا - لديها الآن ناتج وطني يعادل كل الدول العربية عدة مرات. تجتمع الدول العربية خلال أيام وحولها تدق طبول الحرب، ولربما كانت العراق قد احتُلت أثناء انعقاد الاجتماع. وعلى أي حال كانت الأوضاع، فإن الاجتماع أفضل من عدمه، فلعل رفض إعلان الوفاة يتحول إلى إرادة سياسية تحيا في يوم من الأيام

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 171 - الأحد 23 فبراير 2003م الموافق 21 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً