العدد 171 - الأحد 23 فبراير 2003م الموافق 21 ذي الحجة 1423هـ

مأزق الحداثة وبؤس آليات التثاقف

بني جمرة - عباس الجمري 

تحديث: 12 مايو 2017

خرجت الكثير من الأصوات والأقلام على المستوى العالمي رافضة أطروحَتَي «صدام الحضارات» لهـنتغتون، و«نهاية التاريخ» لفوكوياما، بيد أن الإدارة الأميركية (الحالية خصوصا) تسعى إلى تكريس ذينك المفهومين بشكل عملي عبر سياساتها، ففي الوقت الذي أكد فيه الرئيس محمد خاتمي بشكل رسمي في الأمم المتحدة أهمية حوار الحضارات، ترجل بوش وصقوره فرس المنطقية، ليمشي نحو صدامها وإرادة نهاية مثلى للتاريخ يحسم لصالح البيت الأبيض والامبراطورية الأميركية. وهنا يأتي دور حوار الحضارات الذي يفنـد الإرادات العدوانية المزعزعة للحس الإنساني المسالم.

وفي هذا السياق صدر أخيرا كتاب «حوار الحضارات» للمغربي هاني إدريس يتناول فيه جوانب عدة لهذا المفهوم، وأطره وتشعباته. يحتوي الكتاب على ثلاثة أقسام، يتناول القسم الأول فيه «مأزق الحداثة وبؤس آليات التثاقف» ويتفرع عنه بابان الأول بعنوان: مشكلة الحداثة في الثقافة العربية الإسلامية ومسألة تعدد الثقافات، والثاني: من المدينة الكالفانية إلى المدينة الإسلامية، وأما القسم الثاني فيتاول فيه المؤلف موضوع: تحرير النزاع بين الحضارة والثقافة من اتصال أو انفصال، أما الثالث والأخير فجاء بعنوان: أنشودة المثاقفة وآفاق الحوار الحضاري بين قمع الحداثة وصرخة الهامش، وبدوره يحتوي الفصل الثالث على بابين هما: الوجه الآخر لاطروحة هنتغتون وتقويض أدلوجة نهاية التاريخ لفوكوياما، والثاني مساءلات في الحوار الحضاري، كما يحتوي الكتاب على مداخلات للكاتب في الموضوع نفسه باعتبارها أوراقا قدمت في مؤتمرات شارك فيها.

ويوضح الكاتب أن لكل حضارة ثقافة، وعليه فإن ذلك التداخل بين الحضارات يمثل النسبية الثقافية والائتلاف الذي يشير إليه كلود ليفي ستراوس... وبالتالي فإن ذلك الائتلاف والنسبية تمثل حال الأيديولوجيا المنزوعة نحو ذاتها، والارتكاز على البحث العلمي هو التداخل الصحي للحضارات عبر ثقافاتها، لكن إدريس لا يعول على البحث الانثروبولوجي مسـكنا للآلام الهمجية، ومـبعثا لسلامة المنطق، فستراوس - على سبيل المثال - على رغم ما عرف عنه من موضوعية في أبحاثه الأنثروبولوجية فإنه قاس التحضر الإسلامي بل الدين ككل في انطباعية غريبة وبجرة قلم! وكان ذلك أثناء جولة له بين كشمير وراولبندي إذ رأى امرأة مسلمة تعتزل الغرباء وتتكور على ذاتها، وكيف أن زوجها ينظر إلى الغريب شزرا.. ذلك المشهد البسيط جعل ستراوس يقدم حكما عنيفا على الدين الإسلامي، بحسب إدريس، في حين أن الإسلام باعتباره دينا يستحيل تدوينه من خلال بحث انثروبولوجي. إذا نحن أمام تراث مدون، نستطيع من خلاله الوصول عبر السبر والتأويل إلى أعمق بنياته إلا أن ستراوس لا تـُـنكر له ريادته البحثية بوصفه مكسرا للحدود المعرفية والتقسيمات والتحقيبات التي أوجدتها الفلسفة المعيارية.

يستمد إدريس بعد تحليل مفصل لمعيارية ستراوس في تقييمه لدين مترامي الأطراف بمجرد مشهد «شفهي» من دون الرجوع إلى بنيات التدوين، إلى أن الحداثة ما هي إلا بضاعتنا ردت إلينا بصورة مشوهة أو كما يعبر إدريس «بصورة مبتزة».

وبعد عرضه للحضارة الإسلامية وطبيعة مسارها التاريخي منتقدا ستراوس، يؤكد الكاتب أن الثقافة العربية الإسلامية تملك حداثة في مقابل الغرب مع فارق كنـهها وكيفية تقديمها للشعوب، فالإنسان محور الخطاب الإلهي ودعاوى الأنسنة في خطاب الحداثة لا تختلف كثيرا عن خطاب أسلمة الذات التي تتحرر (تلقائيا) من عقدة الدين الغربية، إذ لا يوجد ثمة عقدة ناتجة من سطوة وتحكم الدين الإسلامي بشكل ديكتاتوري على الذات، تلك العقدة التي جعلت الغربيين ينفرون من دينهم ويثورون على كنائسهم، وعليه فإن المفاهيم «اللوثـرية» و«الكالفانية» هي التي عززت دور الشرخ في ثقافة الحداثة الغربية، إذ إن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ويستمر تأكيد الكاتب على حضارية الطرح الإسلامي الذي يزاوج بين المعقول والمنقول بشكل منطقي وسلس. « فالمشروع النبوي نموذجي وعلة غائية تحدد ملامح الإقلاع للمجتمع الواقعي...ومكمن القدوة فيه أنه وسيط عملي نموذجي وليس في كونه طوبى جاهزة متحققة في الواقع». بعد تلك التفصيلات يشير الكاتب إلى مفهوم الحضارة الذي لم يتعافى من الالتباسات الكبيرة والتي منها: خلط فاحش بين مفهوم الحضارة والثقافة المدنية (استصحاب معنى «التحضر» مقابلا للبداوة والرحلية) الحضور، كحضور مطلق وليس حضورا خاصا وفريدا، وعليه فإن مفهوم الحضارة مفتوح على التطورات والاحتمالات، لكن ما هو جوهري في هذا المفهوم هو كونها - أي الحضارة - صناعة القوة وقوة الصناعة. وبطريقة متميزة يتناول إدريس ألوان اختلاف مفهوم الحضارة باختلاف الزمن المستمر ورجاله المتباينين إذ إن (تـوفـلر) يرمز للحضارة الأولى بـ «الزراعة»، كما يؤكد ابن خلدون أن الصناعة هي الحضارة بعد أن أصبحت الزراعة ضربا من البداوة وبذلك يرى الكاتب أن المنظور الإسلامي للحضارة لم يحصل إلا على رؤيتين فلسفيتين: الأولى: من المنظور القرآني التأويلي، والثانية: من المنظور الخلدوني (ابن خلدون)... وتلك الأخيرة التي ولدت من رحم الحضارة الإسلامية العريقة والتي تخلص إلى نسبية الثقافات التي تشكل الحضارات، وما حوار الحضارات إلا حوار ثقافات بـجدارة، وبذلك يسبق ابن خلدون كلود ليفي ستراوس في طرحه لنسـبية الثقافات وبالتالي ائتلافها





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً