العدد 171 - الأحد 23 فبراير 2003م الموافق 21 ذي الحجة 1423هـ

إغواء للوضوح وتفتيت للمباشرة وشرخ للحقيقة

«أوراق ابن الحوبة» لعلي الشرقاوي:

سؤالان يصران دوما على الحضور كلما كان الموضوع شعرا حديثا... أو شعرية جديدة. سؤال الجديد والتجاوز، وسؤال الأسطورة والواقع، وكلاهما يصدران عن وعي إشكالي يخص أصل اللعبة الشعرية، أعني اللغة بمعناها الدلالي الواسع. وبعيدا عن الإشكالات التأسيسية الأولى بشأن اللغة والدلالية والشعرية وجوهر عميلة الإبداع الأدبي - وهي الإشكالات التي كانت مدار النظريات الأدبية ومدارس النقد المختلفة - فإن إشكالا لا يقل أهمية لا يبدو أنه حظي بقدر ملائم من التحقيق والمباحثة في بيئة الشعر المحلية. حينما عولجت المسألة الشعرية كان النظر متوجها إلى اعتبارها ظاهرة لغوية بمعنى من المعاني، وظلا الاعتقاد راسخا لدى قطاع كبير من المحدثين بأن الاجتهاد في إحداث «تحريفات» صادمة في نظام هذه الظاهرة، كفيل بتوسيع الخطى نحو مجد شعري يفرض الاحترام النقدي وتقدير نخبة المتذوقين، ووفق هذا الفهم مارس شعراء كبار حساسيتهم الشعرية من خلال ابتكار ألوان مختلفة من التغريب والإبداع في صنع اللغة والتراكيب.

والأمر اللافت أن ذلك لم يتبع بتأسيس نقدي واضح، وبدا أن هناك اشتباها مكرسا بشأن «التخريب» الإبداعي في أنظمة اللغة وقواعدها، بحيث ظل الحال من دون انضباط «شعري». وفي حين كان من الطبيعي -في ظل حماة الاكتشاف الشعري الجديد - أن يغفل كثير من الشعراء المؤسسين هذا التوجه النقدي، وأن تظل الممارسة الشعرية الجديدة فارضة مشكلها اللغوي من غير الشعور بأية حاجة إلى الإسناد النقدي والتقويمات النظرية؛ إلا أن ذلك افضى في النهايات إلى «تخرصات» مستنفرة لا تجيد حتى إتقان لغة السديم التي تضخ في المعنى متعة التركيب وفرادة الصوغ تحاشيا لدعوية فارغة أو خطابية مباشرة يجر إليها الانكشاف الكلي على المعنى. لقد بات المشهد الشعري بفعل التقصير النقدي مفتوحا على بذاءات متنوعة لم تسلم من مترشحاتها السلبية أسماء تصنف في التأريخ الشعري المحلي ضمن خانة التأسيس والريادة.

ذلك يدفع إلى ضرورة البحث في الحداثة الأدبية في البحرين وطبيعة تمثلاتها الجارية، وخصوصا إذا أدركنا أن هذه الحداثة بدأت من غير تراث شعري محلي كما نجده لدى الأجيال الشعرية الحالية في العراق وسورية ومصر والتي تستند إلى تأسيسات حداثية كانت بمثابة النصوص الخام التي نهضت عليها الحساسيات الشعرية الطالعة. بالإضافة إلى ذلك؛ وفي حين نجد إجمالا بأن الأنماط الحداثية الثقافية في البحرين لم تستطع أن تنجز وعيها الخاص وإبداعها المتكامل، فإننا نلحظ أن الحداثة الأدبية تسعى إلى خوض معركة إعادة اكتشاف الذات والبحث عن سبل مغايرة للتعبير الفني والجمالي، وهو يأخذ بعدا أكثر وضوحا في الحداثة الشعرية التي استطاعت أن توجد لها مدخولات تحديثية كثيرة مستدعاة من ثقافة المحلي وأسئلته السياقية الخاصة. وهذه مسألة تستحق البحث واستخلاص دلالتها على صعيد اختبار مقدرة الحداثة على الإنجاز في غير سياقها، والكيفية التي استطاعت بها الحداثة الشعرية في البحرين أن تحقق شرط حداثتها من غير أن تلتبس بلحظة الانبهار أو أن تستديم في علاقتها المعرفية مع مقولات الحداثات الأخرى. ذلك يتطلب إعادة فهم تجاربنا الشعرية الأولى/المستمرة (علي عبد الله خليفة / قاسم حداد / علوي الهاشمي / يعقوب المحرقي/ علي الشرقاوي / حمدة خميس...)، واستيعاب التباعدات والتقاربات التي تحوزها كل تجربة، والاختمارات النظرية التي تستبطنها كل واحدة منها. وهو ما يتطلب مشروعا نقديا مكملا أو مقوما للمشروع النقدي الذي ابتدأه علوي الهاشمي؛ إذا شئنا الإشارة إلى مشروعات النقد المقروءة.

علي الشرقاوي... شاعر حداثي وموصوف بالتأسيس، وهو يبقى كذلك على رغم الأقوال الحادة التي تراه يوشك بين فترة وأخرى على الوقوع في العادية والتطبيع مع الرسميات الشعرية أو ما يمكن تسميته بالحداثة الرسمية/التقليدية التي تؤسسها العلاقة مع المؤسسة الثقافية القائمة. الشرقاوي في «أوراق ابن الحوبة» لا يباغت هذه المرة بالقول وإنما في كيفية القول. إنه «يجمع ويبوّب» قديما بدلا من أن «يقول ويشفر» جديدا، وتكتفي لعبة النص الناشطة عبر تداخل (المتن/الهامش) في إبراز القول على الكيفية التي تتيح له إعادة فلسفة المعنى أو المعاني المطروقة خلال الفترة الممتدة بين 1989 و2000 م، وإعطاءها افتراقا شكليا يمهد - لا شك - لاستجلاء انعطاف غامر يتكثف بين ثنايا الأوراق. وهذه العودة إلى الجمع والتبويب، وليس الزرع والتأليف، تعكس عودة إلى القديم أو الراكز في ذاكرة الشرقاوي الشعرية. إنها عودة إلى التجانس الشديد الذي توقف عنده ذات مرة صلاح فضل مبرزا التبعات السلبية المتوقع انكشافها جراء هذا المظهر الأسلوبي. إلا أن الطغيان الشعري للشرقاوي كثير ما يخذل قراءات النقد الزائرة! إنها « الوحشية « الشعرية التي تعطي الشرقاوي مساحته الممتدة كامتداد أعماله وتنوعها، وتمنحه قوة المباغتة في اللحظة التي يلمز فيها البعض بشيخوخة مبكرة أو ذبول محتوم بفعل انتساب قسري ربما إلى المؤسسة. والشرقاوي بحيله ورموزه وأقنعته المستأنفة بفعل خاصية التجانس المغلقة والمعاد إنتاجها بصور وإيماءات مختلفة، يبطل مفعول العقل ويهتك ذكريات الأيديولوجيا والنضال، وهو إذ يمعن في إغواء الوضوح وتفتيت المباشرة فإنه يشرخ الحقيقة ويتسلى في إهانتها. ولعمري فإن (ابن الحوبة) و(أوراقه) لا يفعل ذلك إلا إرضاء للرؤيا الحالمة التي داستها رؤية الفعل. إنه يتقافز على وتر تجاوز الجديد بالقديم، ويتهاوى شامخا ضحية لأسطورة أنكرها الواقع. وما العمل حيال ذلك؟ لا مناص من اختراع الأسطورة، وهذه هي حيلة كل شعراء الحداثة. إنهم يلتمسون تقنية الأسطورة لتعميق غربة الزمن والمكان والإيحاء إلى الذات بالقدرة على (الخلق) و(الإنشاء) وبالتالي (الخلود)، وهو ما تتكفل به مثلما تفعل بنى الأساطير - البنى اللغوية والتراكيب وأشكال الصوغ وهندسة الكلام. إنها تعمل بذاتها، من غير الحاجة إلى الرموز والإشارات والأقنعة. في الأسطورة ليس هنالك من دلالة خافية أو معنى يتوارى خلف الألفاظ، هناك فقط أسطورة تحتقر المعاني المعجمية والإحالات المرجعية القارة في الأذهان، وتكتفي بما (تخلقه) من أبجدية داخل النص. ولذلك فإن قراءتها تبدو صعبة، وليس من سبيل للاقتراب منها إلا بالتخلي عن معطيات اللغة المعهودة والدخول مغسولين من ذاكرة الألفاظ والمعاجم، لنستقي من هذه الأبجدية الجديدة لغتها وألفاظها ومعجمها... الخرافي.

«امسك جمرة الكلمات / من ألف الرعونة حتى ياء اليأس/ غامر كالضحى في أرخبيل الليل / اذهب كالخرافة في تحولها»





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً