العدد 170 - السبت 22 فبراير 2003م الموافق 20 ذي الحجة 1423هـ

عشرة... فيلم من أفلام الطريق

الفيلم الأخير للمخرج الايراني الكبير عباس كياروستامي يمثل اشارة متطرفة قد يسبب إما الاغراق في النشوة والطرب او رفض الفيلم في الحال، وقد يجادل البعض بأن طريقة فيلم (?TEN عشرة) معرية بصورة راديكالية - فهي تقشر الزخرفات المتكلفة غير الضرورية مثل العرض العام والسرد وحركة الكاميرا - وتتجه نحو التنقية الرائعة للتجربة الفيلمية، بينما سيشعر آخرون بأن الفيلم بالكاد مؤهل لأن يعرض في السينما وانه اشبه ما يكون بأحد برامـج TV reality الرخيصة.

كلا الاستجابتين ليستا ملائمتين على المدى البعيد لتفرد فيلم أفضل ما يقدم له من وصف ببساطة هو انه كما هو واقعه: (عشرةTEN ) مصور في سيارة، نرى فيه امرأة (مانيا اكباري) وهي شابة أنيقة ومن الواضح انها ثرية - تقود سيارتها في شوارع طهران، وتتحدث مع مجموعة من الراكبين، منهم ابنها غير البالغ وشقيقتها وعاهرة التقتها صدفة.

يتم تصوير المحادثات بكاميرا فيديو رقمية، ومن الواضح ان الكاميرا معلقة على غطاء محرك السيارة وانها لم تتحرك أبدا إلا في لقطة واحدة، كل ما نراه هو لقطات مقربة ذات حجم متوسط للسائقة والركاب. ويقطع كياروستامي المشاهد بين حديث اي شخصيتين في أي مشهد ولكن ليس بصورة دائمة ويمثل هذا القطع «رمشة العين».

الثماني عشرة دقيقة الأولى التي تفتتح الفيلم تمثل لقطة واحدة نرى فيها ابن السائقة «امين»، ولا نرى والدته حتى نهاية المشهد، وحتى ذلك الحين فهي مجرد صوت مستثار ولكنه خارج الشاشة، تشارك في نقاش تتصاعد حرارته عن طلاقها وزواجها مرة أخرى وهو الأمر الذي يمتعض منه ابنها بمرارة. كل ما نراه لمدة 94 دقيقة هو أشخاص يتحدثون ويتم تصويرهم في لقطات كئيبة وهو الأمر الذي تتفرد كاميرات الفيديو الرقمية به. لا نستطيع أن نتحدث عما نراه وهو توثيق لما يدور في غرفة مغلقة وليس من وراء زجاج سيارة أو رواية مصطنعة، اذا كان الأمر هو الأخير، فإن اداء الممثلين مدهش حتى بحسب المقاييس المؤثرة بشكل ممتاز للممثلين الايرانيين الأطفال، فالولد الذي يلعب دور أمين يثير الاعجاب، تلقائيته تصعق المتفرج ونراه يطلق عواصف من الكلمات الغاضبة تقطعها تثاؤبات متجهمة واشارات صغيرة توحي بالتكبر والازدراء بالاضافة الى اشارات يديه ذات الجوهر الاسلامي في أثناء المناقشات والمجادلات، والتي التقطها من مراقبة الكبار (أو في الواقع من الأفلام الأخرى لكياروستامي).

وغالبا ما يتسكع كياروستامي في أفلامه بين محادثات تتم في داخل الســيارة، وقد فعل ذلك بشكل ملحوظ في الفيلم الخالي من الديكورات بشــكل مثبط The Taste of Cherry وهو هنا يحفظ الدراما بشكل صارم في داخل السيارة، ولكن لماذا يفعل ذلك في الوقت الذي كان يمكنه فيه أن يقدم الفيلم بطريقة مختلفة؟ السبب هو لأنه يستطيع أن يثبت بهذا الأسلوب من العرض والتصوير بأنه كلما كان ما نراه قليلا كان حجم المعلومات التي نعرفها أكثر فهنا تنتقل لنا الكثير من المعلومات عن زواج السائقة الأول على رغم اننا لا نرى زوجها السابق أبدا.

وعندما تصبح السيارة مسرحا أساسيا وتقربنا من الممثلين بأكبر قدر يمكننا تخيله، فإن معوقات فقدان المحيط تجعل قدرتنا على قراءة تعبيرات الوجوه والايماءات والايقاعات اللفظية مضاعفة، ولكن لأن الكاميرا مثبتة، نعلم أننا نستطيع أن نكون قريبين جدا وانه ليس هناك فرصة لأية ايحاءات كاذبة بسبب لقطات مقربة للغاية ومفاجئة فنحن دائما على الجانب الآخر من زجاج السيارة.

من مشهد لآخر يتم بناء صورة معقدة ودقيقة للتجارب اليومية للمرأة في ايران، ويتضح لنا أن النساء في فيلم (عشرة TEN) يعشن حياة متحررة غربية بين النوادي الصحية وبرامج المحطات الفضائية كما يستمعن خلسة إلى خطفات من روبرت بالمر على راديو السيارة، ولكن ما ينبثق هو صورة عن المجتمع الايراني، وليس كما يتضح من فيلم جعفر باناهي الذي يتحدث عن سجن النساء وهو بعنوان The Circle، بل ان الصورة هنا اكثر ما تكون عن ازدحام مروري يجب على النساء ان يتحركن فيه بحسب نظام الرجال (من المؤكد انه ليس حادثا عرضيا ان تجد البطلة باستمرار مشكلات كبيرة عند ايقاف سيارتها).

موضوع الجنس يبدو واضحا في الفيلم وفي بعض الأوقات صريحا الى حد ما - وهذا الأمر يشكل نقلة في السينما الوطنية وهو متصل بالقيم الاسلامية المتعلقة بالحشمة. في أحد المشاهد، التي تصور في الليل، تقل السائقة عاهرة من الشارع وتسألها عن عملها. وتقوم الفتاة اللعوب الساخرة - التي لا نراها حتى تخرج من السيارة لتجد لها زبونا في اللقطة الوحيدة التي تصور خارج السيارة - بتعرية النفاق في المجتمع إذ يتردد عليها الأزواج بينما يمطرون زوجاتهم بوابل من الأسئلة عن أشياء تافهة على هواتفهم النقالة.

اللقطة الأكثر مواجهة لقطة بسيطة ولكنها تسبب صدمة قاسية، ففي اشارة يأس او تمرد أو كليهما (لا يتم توضيح هذا الأمر أبدا في الفيلم وليس هناك حاجة إلى ذلك)، نرى امرأة تحلق شعرها بسبب رفض خطيبها لها. في السينما التي لا تظهر فيها النساء أبدا بشعور غير مغطاة، يشكل هذا سخرية ملحوظة من المحرمات، وقد كان له آثار استفزازية ومكدرة بشدة. ما يقوله كياروستامي في هذا الفيلم يمثل الحقيقة غير المزخرفة عن حياة النساء الايرانيات.

كل ما نعرفه هو أن 10 يخبرنا بقصص ممثليه، في تجربة لا يدعو فيها كياروستامي اي محترفين ليتحدثوا عن حياتهم. بالتأكيد استمتع ممثلوه بحرية غير عادية بسبب تركيز وتكتم الكاميرا الرقمية ما يعني ان الممثلين كانوا مطمئنين اثناء محادثتهم. (عشرةTEN ) هو فيلم من دون منتج، ونتساءل كيف أخرجه كياروستامي، وكيف تم اختيار افضل اللقطات (في الواقع، الفيلم لا يدين بالفضل لأي أحد، ولكنه ببساطة يقدم قائمة بأسماء جميع المشاركين في العمل بمن فيهم كياروستامي من دون تمييز للممثلين عن طاقم العمل).

يشبه كياروستامي عمله بتدريبات كرة القدم وقد انجز معظم عمله قبل تشغيل الكاميرا، انجازه الحقيقي هو أنه جعل نفسه غير ضروري كملقن للممثلين، فقد بقي بعيدا عن الأضواء وظل يراقب. قد تصعقك مقدمة فيلم (عشرة TEN) باعتبارها وصفة أكيدة للملل ولكن كان هذا الفيلم هو الأكثر لفتا للانتباه في العام 2002 فهو ابتكاري بشكل راديكالي لأنه يرفض كل الخدع التجديدية التي نعتبرها عادة ابتكارا سينمائيا. وفي الوقت الذي يمكن أن يساهم فيه هذا الفيلم في تغيير احتمالات الأفلام، فإنه يهدف بشكل جاد إلى تغيير العالم.

اذا كنت متعبا من الخطابات التي تتحدث عن افتتاح الكاميرات الرقمية لسينما جديدة سريعة وقاتلة وليست لها اية موازنة، فإن فيلم كياروستامي سيأتي إلهاما لامكانات اشد صرامة وابسط واثرى. وفي الواقع اذا وجدت نفسك تتساءل عما اذا كان منتجو الافلام لا يزالون يحملون اي رأي معقول فإن 10 سيقدم اجابة مفحمة جدا.

عشرة (2003) النوعية: أجنبي/ دراما تاريخ العرض الأول: 5 مارس 2003 إخراج: عباس كياروستومي تأليف: عباس كياروستومي تمثيل: مانيا أكباري، أمين ماهر مصور من زاويتي كاميرا فقط (مقعد السائق و مقعد أمامي السيارة). هذا الفيلم يظهر عشر محادثات من امرأة إيرانية متزوجة حديثا مع الناس (مثل ابنها، أخواتها والآخرين) انها تقود سيارتها إلى أماكن كثيرة في طهران

العدد 170 - السبت 22 فبراير 2003م الموافق 20 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً