أرادت فرنسا من وراء عقد قمة رؤساء الدول العربية الإفريقية الثانية والعشرين في باريس بين 20 و21 من الشهر الجاري، إظهار إرادتها بالوقوف، أكثر من أي وقت مضى، إلى جانب القارة السوداء. ففرنسا جاك شيراك، التي تترأس قمة الدول الثماني الصناعية الكبرى المقبلة التي ستعقد في منتجع «إيفيان»، وستلعب دور «الدينامو المحرك» في الاجتماع الافريقي - الأوروبي الذي سيعقد في لشبونة في أبريل/نيسان المقبل إلتزمت سلفا بدعم قضايا إفريقيا الملحة! كما أفهمت من يهمه الأمر بأنها ستكون محامي هذه القارة لدى الاتحاد الأوروبي. مع ذلك، لم تكن القمم الفرنسية - الإفريقية يوما عبارة عن ملتقى يصدر عنه قرارات كبرى.
فكيف الحال اليوم والعالم، من ضمنه إفريقيا، يمر بأزمات يصعب إيجاد مخارج لها في المدى القصير، وخصوصا بعد دخول الولايات المتحدة بقوة على خط إفريقيا موزعة المساعدات مضاعفة الاستثمارات، ومزيدة لنفوذها تدريجيا. واقع أكده آخر استطلاع للرأي أجراه «مركز الدارسات الأمنية والدولية» التابع لجامعة «ميريلاند».
قبل دقائق على افتتاح هذه القمة التي شارك فيها رؤساء وفود لـ 52 دولة إفريقية، بحضور الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في قصر المؤتمرات بباريس، حاول بعض مسئولي وزارة الخارجية الفرنسية إعطاء انطباع تفاؤلي، ولو بحذر، حيال النتائج التي يمكن أن تتمخض عنها هذه التظاهرة التي لم يحضرها كما كان منتظرا «رئيس ساحل العاج»، لوران غباغبو في حين فوجئ الجميع بوصول رئيس زيمبابوي، روبرت موغابي». فهذا الغياب وهذا الحضور، خلقا حال من الارباك، وخصوصا بعد أن أعلنت جمعيتان غير حكوميتين، عن عقد «قمة إفريقية موازية» في احدى قاعات بلدية باريس، يشارك فيها كتاب ومثقفون وفنانون وطلاب الخ... على رغم هذا التشويش الحاصل، من المتوقع أن تستمر القمة الثانية والعشرون بمناقشة الموضوعات المدرجة علنا على جدول الأعمال. لكن الأهم والأكثر جدية هي المشكلات التي يتبحثها «قمة الكواليس» كالعادة. مشكلات مستعصية الحل حتى الآن، تبدأ براوندا وتنتهي بالصحراء الغربية على حدود كل من الجزائر والمغرب، مرورا بساحل العاج، موضوع الساعة، مع التوقف في نيجيريا والكونغو عشية هذه القمة أشار الوزير الفرنسي المنتدب لشئون التعاون والفرانكوفونية، «بيار أندريه ويلتزر»، إلى أن بلاده ستكون في خدمة الطموحات الإفريقية، لأنها تشكل، بحسب قوله، جزءا من طموحات فرنسا. لكن هذا النوع من الدفاع يبقى صعبا على أي محامٍ، إذا لم يكن الملف الذي بحوزته يحوي مستندات ووثائق صلبة. ما فسرته بعض الأوساط المراقبة بأنه محاولة لافهام الضيوف الأفارقة من أنه يتوجب عليهم وضع جميع أوراقهم على الطاولة قبل بدء اللعبة كذلك عدم الرهان على جوادين في آن واحد معا، كما هو حاصل في دول تبلغ النزعات في أوجها. وذلك في إشارة إلى ساحل العاج، التي ستشكل عودة السلام إليه الاختبار الأساسي لإرادة الأفارقة في حل نزاعاتهم من جهة، ورص صفوفهم من جهة أخرى.
تعاون، ديون، نفط
بدا واضحا من خلال مجريات هذه القمة أن الدبلوماسية الفرنسية باتت بحد ذاتها شأنا رئاسيا بامتياز. لذلك، عليها ترجمة التوجهات الجديدة للتعاون الذي رسم خطوطه العريضة في مجال التعاون، جاك شيراك بنفسه. وتتمحور هذه النظرية بشأن عشر نقاط رئيسية تتلخص بزيادة المساعدة العامة للتنمية، تفعيل التعاون مع إفريقيا، إقامة شراكة كريمة، محددة ودقيقة لناحية متطلباتها، تطوير التعاون اللامركزي، رفع مستوى التنسيق، والشراكة مع المجتمع المدني، أيضا مع عالم الشركات والمنظمات غير الحكومية، كذلك، تعزيز دور الخبرات الفرنسية في مجال التعاون، تأمين تنسيق أفضل بين الأدوات الإدارية والفنية والمالية، ومضاعفة الوجود السياسي والدبلوماسي الفرنسي داخل الدول التي يتم وضع برامج واضحة معها. فمن خلال فرض «خريطة الطريق» الإفريقية هذه، أراد الرئيس الفرنسي الإجابة على منتقدي الدور الجديد الذي اضطلعت به حكومته أخيرا، مبينا عبر مداخلاته المتعددة أنه لا يجوز مطلقا بعد اليوم التعاطي بالعقلية التي كانت سائدة في زمن الوزير «جاك فوكار» («مسيو أفريك» خلال عدد من العهود السابقة). بمعنى التخلي نهائيا عن صيغة الشبكات الموازية، غير الرسمية لدعم النفوذ الفرنسي في إفريقيا سياسيا وعسكريا، وحماية المصالح الاقتصادية فيها.
وإذا كان عنوان هذه القمة: «معا في شراكة جديدة»، قد سمح لوزارة الخارجية الفرنسية بمناقشة الموضوعات المطروحة وفق تفكير منفتح وبصراحة متناهية، إلا أنه وكالعادة، ستبحث الأساسيات في لقاءات ضيقة، جانبية، ثنائية في غالبية الحالات. في هذا السياق، لم يتردد أحد من منظمي هذه التظاهرة الفرنسية - الإفريقية في القول: «إن النقاشات الرئيسية والأهم، تتم في الجلسات المغلقة، من دون جدول أعمال محدد. ما يؤكد النظرية القائلة إن هذا النوع من الندوات يبقى بمثابة «قمم الكواليس». إلا أن فصوله المهمة معروفة، وهي تتلخص في الموضوعات الآتية التي من المفترض أن تشكل محور الشراكة: السلام والأمن والتنمية. هذا بشكل عام، أما إذا ما دخلنا في التفاصيل، فيمكن عندئذٍ أن نصل إلى الاستنتاج أن التوجهات الفعلية تتركز بشأن التعاون العسكري والرهان على «الشراكة الجديدة للتنمية في إفريقيا» والمتعارف على تسميتها «النيباد»، والديون والنفط.ويشكل هذا المجال الأخير الرهان الدولي الذي أصبح اليوم إقليميا أيضا مع بروز نزاعات حادة في عدد من دول القارة، تقف وراءها قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا دفاعا عن مصالحها. فهذا الوضع المقلق والخطير، على رغم نفي الطرفان المعنيان، هو من الأسباب التي دفعت فرنسا إلى إظهار التزامها الإفريقي على النحو الذي تشهده حاليا في هذه القمة. لكن ذلك، لم يمنعها من تنفيذ ما اعتمدته في العام 1998 لناحية خفض موازنة التعاون العسكري في إفريقيا، وتحويل أجزاء منه إلى التنمية. فالدليل خفض هذه الموازنة من 137 مليون يورو في 1990 إلى 94,3 مليون للعام .2003 فالواضح هنا أن فرنسا تريد من الآن فصاعدا لعب ورقة التنمية والحرب ضد الفقر في مواجهة خصومها كما لا تنوي مطلقا ترك فراغ يستفيد منه الأميركيون الذين يبذلون جهودا استثنائية لإحداث اختراقات على جميع الأصعدة في إفريقيا. وآخر مثال على ذلك، تقديم ضمانات إقراض بقيمة 152 مليون دولار لدول الساحل الإفريقي من قبل «مكتب ترويج إستثمارات القطاع الخاص في الخارج» الأوبيك، إضافة لبرامج المساعدات المتعددة التي أقرها الكونغرس مؤخرا، هذا، ناهيك عن «تشجيع صندوق النقد والبنك الدوليين، لتمويل الكثير من خطط التنمية في دول إفريقية مقربة من واشنطن.
يبدو من مسار الأمور، أن الأميركيين لا يكتفون بالدور الحالي الذي يلعبونه في إفريقيا، كذلك لناحية تأثيرهم المتنامي في قرارات دول منها. ولقد أظهر آخر استطلاع للرأي، نظمه «مركز الدراسات الأمنية والدولية» في جامعة ميريلاند، بالتعاون مع «المركز المختص بسياسة التصرفات»، بأن 74 في المئة ممن شملهم هذا الاستطلاع رفضوا المبدأ القائل إن «الولايات المتحدة الأميركية ليس لديها مصالح حيوية في إفريقيا، وبالتالي، فإنه يتحتم عليها إعطاء أولوية أكبر لهذه القارة عندما يتقرر توزيع المساعدات. ومن أصل هؤلاء، أوضح 44 في المئة بأن أميركا لا تهتم بما فيه الكفاية بإفريقيا، في حين اعتبر 12 في المئة أنها تهتم بها كثيرا». وفي تقرير أعدته وزارة الخارجية الفرنسية يشير الباحثون إلى أن أحد أهم المجالات التي ترغب واشنطن زيادة التعاون فيها مع إفريقيا هو الإرهاب. بناء عليه، أشار استطلاع الرأي هذا، إلى أن 71 في المئة يريدون أن تضاعف أميركا من برامجها الهادفة لتـأهيل العسكريين ورجال الشرطة في الدول الإفريقية، كذلك، زيادة حجم تبادل المعلومات بين أجهزة الاستخبارات كافة. على رغم هذه النتائج المشجعة نسبيا، يشكو الأميركيون من النسبة العالية للرشوة. لكن هذا لم يمنع الرئيس بوش من العمل على زيادة المساعدات بنسبة 50 في المئة إلى 70 في المئة بحسب البرنامج أو الأفكار المطروحة.
المحافظة على المصالح
حاول الفرنسيون خلال هذه القمة تعبيد الطرق المؤدية إلى نمو متوازن ودائم في إفريقيا. لكن الضروري في النقاشات الاقتصادية التي دارت تؤثر في المناخ الجغراسياسي العالمي المسيطر حاليا أي المتعلق بالعراق أكثر منه بالمعطيات الإقليمية الإفريقية البحتة. ويخشى الفرنسيون في إفريقيا من الانعكاسات التي خلفتها أزمة ساحل العاج. فالتأثير الأول، الآتي، تمثل بالتدهور الحاد للنشاطات في هذا البلد الذي يشكل 40 في المئة من ناتج الدخل القومي الخام لدول «الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا» «اليوموا». هذا ما أكده، الأمين العام لمجلس المستثمرين الفرنسيين في إفريقيا «أنطوني بوتولييه» - فهذا التدهور في ساحل العاج مرتبط مباشرة بجيرانه. لذلك، فإن الأمر يتطلب عدة سنوات قبل أن تتمكن هذه الدول من الصعود التدريجي. ومن زاوية الأهمية الاقتصادية، يطرح الخبراء تساؤلا يتعلق بمستقبل نحو من ألف شركة فرنسية خاصة، صغيرة أو متوسطة الحجم، التي تشكل النسيج الاقتصادي في ساحل العاج - فبجانب الشركات المحلية، تمثل هذه الشركات الفرنسية 80 في المئة من ضرائب الشركات العاملة في هذا البلد وتشير الاحصاءات إلى أنه حتى نهاية 2001، بلغت فروع الشركات الفرنسية في إفريقيا نحوا من 2330 من بينها 1520 في دول الساحل و806 موزعة على منطقة الفرنك الإفريقي.
على أية حال، تجدر الإشارة إلى أن عدد كبير من أصحاب الشركات الفرنسية العاملة في إفريقيا لا يبني الكثير على الأوهام. فالشراكة الجديدة لابد وأن تصطدم عاجلا أم آجلا بحقائق القارة. فالإستثمارات في إفريقيا تمثل أقل من 1 في المئة من مجمل الإستثمارات الخارجية المباشرة لفرنسا في العالم. أما تجاريا، فإن صادراتها باتجاه بلدان القارة تبقى ضعيفة، توازي بالكاد الـ 3 في المئة التي تذهب باتجاه ثلاث دول مغاربية. في هذا الإطار، تؤكد بعض مصارف الأعمال الفرنسية أنه: «إذا لم نحسب الإستثمارات في القطاع النفطي، فإنها ستتجاوز بقليل الصفر في المئة. هذا ما يعنى أنه ليس هنالك إستثمارات جديدة في السنوات الثلاث الأخيرة. نقطة مدرجة على جدول أعمال القمة الثانية والعشرين، لاقت صعوبة نتيجة التآزم العالمي من جهة، وبسبب الركود الذي يلف العام، الغربي من جهة أخرى.
المغرب العربي الإفريقي
بالنسبة إلى دول شمال إفريقيا، المغاربية تحديدا، يمكن القول إن فرنسا مرتاحة لهذا الجانب فالعلاقات مع جميع دول إتحاد المغرب العربي الخمس جيدة عشية الزيارة الدولية التي سيقوم بها جاك شيراك للجزائر والتي ستتبعها جولة في كل من المغرب وتونس. فالعلاقات مع هذه الدول بما فيها ليبيا قد تحسنت منذ ذهاب الاشتراكيين من السلطة. فهذه الأخيرة تشارك هذه المرة بوفد رفيع المستوى يترأسه وزير الشئون الإفريقية علي عبدالسلام التريكي. ومن الملاحظ في هذا السياق، وجود مسئولين عن الأمن الليبي ومؤسسات الاستثمار فيها في عداد هذا الوفد. ما يعني أن المسألة أهم من حضور هذه القمة. وتجدر الإشارة في الموضوع نفسه، إلى أن العقيد القذافي تنازل عن دوره في جمهورية افريقيا الوسطى، لرئيس الغابون، عمر بانغو، تلبية لرغبة فرنسا. كما عقد في مدينة «جنزور» الليبية، التي لا تبعد كثيرا عن العاصمة طرابلس، في الأسبوع الماضي، حلقة دراسية جمعت الليبيين والفرنسيين عن موضوع «التفكير في سياسات التنمية» (... والأمن) في إفريقيا.
في الوقت نفسه، تراهن جهات فرنسية مطلعة وأخرى رسمية، معنية مباشرة بملف العلاقات الجزائرية - المغربية عن إمكان عقد لقاء قمة، علني أو سري، بين الملك محمد السادس والرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، برعاية الرئيس الفرنسي لبحث مسألة الصحراء الغربية. مع ذلك، لا تتوقع هذه الجهات تقدما كبيرا في هذه الجبهة نتيجة دخول الجزائر في معركة رئاسة الجمهورية منذ الآن. لكن المهم في التشجيع الفرنسي هو المساهمة في بعض «الحلحلة» على الأرض واحتواء أية أزمات مستقبلية بين البلدين، يمكن أن تعيق السياسة المغاربية لفرنسا
العدد 170 - السبت 22 فبراير 2003م الموافق 20 ذي الحجة 1423هـ