العدد 169 - الجمعة 21 فبراير 2003م الموافق 19 ذي الحجة 1423هـ

عن العراق وتداعياته... هل نعود إلى عقلنا؟

هاني فحص comments [at] alwasatnews.com

عضو في المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى في بيروت

نحن أمام الاحتمال الارجح لحرب الولايات المتحدة على العراق، يعاونها بأشكال مختلفة معارضوها والموافقون، وفي طليعة الجميع النظام العراقي، صديق الولايات المتحدة الملتبس بعدوها أو عدوها الملتبس بصديقها، والنتيجة واحدة من حرب ضد إيران إلى احتلال الكويت إلى تخريب العراق أرضا واجتماعا وإنتاجا وبشرا، إلى القلب المشبوه الذي يمارس مع كل انتفاضة فلسطينية ومشارفتها ان تؤتي ثمارها، ليدفع بالعراق إلى الأمام وفلسطين إلى الخلف ليتم للعدو الصهيوني بالغطاء العراقي التقدم مرحلة على طريق تشديد القبضة على الأرض والقضية وأهلها ومقدساتها ومصيرها

نحن أمام هذا الاحتمال الذي لا يفيد فيه إلا تحول أو تحويل ميلودرامي كبير، كأن ينسحب النظام العراقي ورئيسه من موقعهما المعين في سياق حياة الشعب والامة والمنطقة... وهذا امر يستبعده العارفون بمزاج الرئيس العراقي الذي لا يخاف إلا على نفسه ولا يهتم إلا بسلامته الشخصية، بدليل قتله لحزبه ورفاقه وأبناء شعبه وعشيرته وإخوته وأصهاره... ولم يبق له من علاقة بالرحم إلا علاقته بولديه، وقد تعلمنا من التاريخ ان الطواغيت لا يقف أبناؤهم في طريقهم واذا ماحدث فإنهم يزيلونوهم ببرود أعصاب إذا ما اقتضى الامر. إذا فالرئيس العراقي يمكن ان يضحي بكل شيء من أجل سلامته الشخصية، بعدما يكون المحذور قد وقع وتدمير العراق قد حصل، حينئد قد يتخلى عن السلطة ويؤثر حياة ذليلة في سجن أو منفى قريب أو بعيد... المفارقة في هذا الكلام الذي يقوله القاصي والداني الآن، أن تصبح حياة أو سلطة الرئيس معادلا حضاريا للعراق والعرب والمنطقة كلها.

هذا دليل آخر على إصرارنا على الاستمرار في الاعتماد على الحضور في المفاصل الحضارية التي ينتجها عقل كوني على شبكة من التعقيدات التي يختلط فيها الايجاب بالسلب والمصلحة بالمفسدة والأمن بالخطر... الاعتماد على تعطيل عقلنا لينبري بعض المحسِّنين للقبائح والمنظِّرين المؤهلين للتخلف، من موقع معرفي متقدم شكلا ومتخلف مضمونا، مرتكبين ذنبهم الموصوف في ابقاء التخلف على الإسلام، أو محوِّلين الاسلام إلى غطاء أو مسوّغ لهذا التخلف تحت ضغط الهوية ونقلها من كونها جملة من الثوابت المتناغمة مع المتغيرات في سيرورة تاريخية، إلى كونها مفهوما ايدلوجيا ساكنا يحاول ان يحبس المتغير في الثابت ليعطل الثابت ويطرد المتغير ويقيم في الماضي مستريحا من الحاضر المستقبل، مؤكدا تبرير الواقع السيئ بأن المسألة هي مسألة موازين قوى حصل اختلال عميق في معادلتها منذ سيطر المستعمر على أرضنا وقرارنا، من دون تساؤل مسئول عن السبب الذي جعل هذه المعادلة تختل لنتحول إلى ضعفاء مستلحقين من حيث لم نكن كذلك وكان عقلنا التوحيدي يفرز الموانع الأخلاقية والعلمية لمنع طغاتنا من تحويل الاسلام من مشروع حضاري انساني إلى مشروع استيلاء على الآخر واستلاب له.

إن الرجوع في حساب الامور الى القرون الاخيرة هو لون من التسويغ والتبرير لكل مظاهر واسباب التخلف والظلم والتدمير المتداول والمتعاقب. اما الواقع التاريخي المسلّم فإنه يؤكد ان المنزلق الأعظم الذي وقعنا فيه ومازلنا نتخبط، قد حدث مبكرا وفي مطلع أو اواساط القرن الخامس الهجري، أي عندما هجرنا كتاب العلم والطبيعة وعكفنا على يومياتنا العبادية تفريعا للتفريع وأهملنا الفقه العلمي، كأننا قررنا فصل مشروع الاسلام الديني عن مشروعه الدنيوي خلافا لما ارساه الرسول من تعادلية وتواصل وتشارط «ليس منا من أهمل آخرته لدنياه ومن أهمل دنياه لآخرته».

أما اننا - كما يردد البعض - قاومنا الاجتياحات العظمى الصليبية والمغولية وغيرها (حتى الآن) فإننا نسجل في الرد على ذلك أن الناس، العامة منا، هي التي قاومت متكئة على انظمة قيمها المحفوظة ومخزونها الثقافي الموروث وأجبرت بحراكها قيادات ذات قدرة على الإصغاء إلى نبض الناس لتقودها في المتحولات الصعبة ومن دون أن تكون هذه القيادات الرائدة لعمليات التحرير مؤهلة علميا وفكريا لتشارك في تأسيس أو إعادة تأسيس حال عقلية أو علمية منسجمة مع اوليات المشروع الاسلامي. فعماد الدين زنكي ونور الدين وصلاح الدين الايوبي والظاهر بيبرس ومنصور وخليل بن قلاوون لم يكونوا جهالا ولكنهم لم يكونوا علماء. وكان العلماء في رعيلهم وفي سياقهم السياسي الجهادي، من دون ان تكون لهم فرصة لمواكبة الجهاد بالفكر والعلم... اي الجسم بالعقل.

وقد يكون محمد علي باشا أقل علما ممن ذكرنا جميعا... وهناك قول إن هذا الرجل كان أميا إلى فترة متقدمة من عمره، ولكنه أسس وحاول ان يحقق نهوضا على موجب العلم وحركة العقل، أدت به إلى الانفتاح على مصادر المعرفة في الخارج... وإن كان البعض يأخذ عليه ذلك انه خالف مسار الدولة العثمانية التي كانت في اتجاه تنمية قوتها واستخدمها في توسيع مساحة سلطتها خارج المركز والاطراف الاسلامية... على أن هذا الكلام يحتاج إلى التدقيق لأن مجد الدولة العثمانية لم يتجاوز عمر السلاطين العشرة الأوائل بعد محمد الفاتح في القرن الخامس عشر. وبعد ذلك شرعت الدولة في الانحدار وأخذ مرض الاستبداد والمركزية الشديدة والتخلف والضعف يستبد بها ويجعلها عرضة للابتزاز الغربي ومن أطراف مختلفة، وإن كانت هناك مكابرات جميلة مختلفة الايقاع من عبدالمجيد إلى عبدالعزيز إلى مدحت باشا وحركة التحديث إلى موقف عبدالحميد من الصهيونية وفلسطين ولكنها لم تكن كافية بعدما استحكم المرض واصبح عضالا. إذا فقد تراكمت خسائرنا مع تغييب عقلنا فهل نسترده؟

في تقديري ان الحرب المقبلة على العراق هي آخر الإنذارات وأعظمها ولعل آثارها ستكون بمنزلة الأضعاف المضاعفة.... لكل ما حصل في تاريخنا من نكسات وترتب عليها من خسائر... ولا يمكن الرد عليها واستيعابها لتجاوزها وتحقيق الممانعة امام مخاطر سلبياتها البنيوية لتعديل المعادلة والعودة إلى طموح المشاركة الكونية إلا إذا اعترفنا بها واتفقنا على تحديد أسبابها وتشخيص أعطابها لنتفق على كيفية العلاج وعلى المعالج وعلى الدواء تركيبا ومقادير الجرعات ومواقيتها... حتى لا نستعجل المؤجل أو نؤجل المستحق مرة أخرى.

إذا... لابد من استخدام عقلنا... مقرين بأن عقل الفرد وحده لا يكفيه وكذلك عقل الجماعة أو الحزب أو الطائفة أو المذهب أو القطر أو الشعب أو الإقليم أو القومية. عقلنا جميعا إذا جمعناه قد يكفينا... ومن دون الجمع سيبقى الجميع قاصرين مقصرين... إذا لابد من الشراكة التي تؤهلنا للمشاركة حضاريا وثقافيا وتنمويا. من دون ان يكون هذا الكلام مؤشرا على العودة إلى طرح الوحدات القومية المتعجلة أو القسرية مشروعا بديلا لدولنا الوطنية التي أهملت نفسها وأهملناها.

فلابد من إعادة تشكيلها و إعادتها إلى وظيفتها في الجمع والاحتضان والرعاية مطمئنين إلى ان مستوى من الوحدة على قاعدة التوحيد متحققة في اجتماعنا العربي والاسلامي والوطني، تحتاج إلى تغذية وحماية من دون تعجل أو تسرع أو قفز فوق المراحل.

أما أن نهوّل لنؤهل أنفسنا ونزين لها الوقوع في هذه الصراعات الداخلية على موجب الفوارق الاثنية... لنحول الوجود الأميركي في المنطقة من مجرد غلبة مرة إلى مصير محتوم وشامل يطول كل شيء فإننا نسهم في عملية تدمير حضاري تام للذات وللآخر... إذا فليس ما نقوله واقعا حتما... ليست الولايات المتحدة الغالبة أو العادية علينا مستفيدة من أسباب ووقائع نصنعها بأيدينا. ومضطرة إلى التقسيم وإعادة انتاج «سايكس بيكو» على الساحة العربية بكاملها ومنها على الساحة الاسلامية والشرق اوسطية بكاملها... وقد لا يكون ذلك مفيدا للولايات المتحدة وهو ضار بأوروبا المستضعفة الآن ولكنها (أوروبا) غير قابلة للإلغاء والشطب...

إذا فلا يجوز ان نعد أنفسنا بتحقيق ذواتنا الفرعية على قاعدة الازمة والهزيمة من خلال الصراعات كاستقالة نهائية من عقلنا وإيماننا وقيمنا وتوحيدنا ووحدتنا المتحققة دائما في اجتماعنا ومن دون حاجة أبدا إلى مشروعات قومية لا تلبث ان تتحول إلى مشروعات ما دون قطرية وتتحول الوحدة والتقدمية والعدالة فيها من أطروحة إلى ذريعة لمزيد من التجزئة والتخلف والتبعية والجهل والجور والتجزئة

إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"

العدد 169 - الجمعة 21 فبراير 2003م الموافق 19 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً