في زحمة حادث شارع المعارض ازدحمت القضايا وتداخلت الأوراق وبدت نظرية المؤامرة حاضرة تطل برأسها من بين التصريحات بمن فيهم بعض المسئولين، وبدأت اللهجة تتصاعد بأن هناك «أيدٍ خفية» وانها «مؤامرة مدبرة» وان وراءها «فئة الكل يعرفها». وراح بعض الكتّاب والصحافيين يصبون الزيت على النار بتوجيه أصابع الاتهام إلى الجميع، وبدأ البعض يسرب اسم رمز من رموز الحركة السياسية في الأمر على انه وراء الحادث، وان هناك «هدفا لضرب الاقتصاد والمشروع السياسي» وو... الخ. وراحت الصور بطريقة عرضها وبأسماء المناطق تعطي بعدا سياسيا للقضية، هذا والمجتمع البحريني يلحظ طريقة تغطية الحادث وطريقة الاستعراض التهويلي في الأمر حتى شعر الناس ان قانون أمن الدولة خرج من الباب محاولا العودة من الشباك عبر صحافة وأعمدة وكتّاب وغيرهم...
أما الأكثرية من هذا البلد فراحوا يتعاطون مع الحادث بكل صدق ومسئولية مجردين أنفسهم من الأحكام المسبقة وطريقة تضخيم الحادث بأسلوب اتهامي أو اصطيادي أو عدائي ليكون القضاء هو الحكم، وليس الصحافة أو متنفذ هنا أو هناك.
وان يُتعاطى مع الحادث في الصحافة بأسلوب موضوعي مهني بحت انطلاقا من ان هؤلاء موطنون مازالوا في قائمة الاتهام، لا يجوز القاء التهم عليهم جزافا، فتؤثر على سير العدالة أو تخلق عداء في المجتمع، وان الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان التي كفلها الدستور هو الأسلوب الأمثل، وكان الخيار الوطني ان نقف جميعا بكل مسئولية مع الحادث لندين من خرّب ونحتضن من كان بريئا؛ على ان يكون الحكم بلا مزايدات أو انتقائية. وكنا نصرّ على سيادة القانون لأن كسر القانون في حادث معين قد يكسر في حوادث أخرى والرهان دائما على توحد جميع المواطنين على مبدأ سيادة القانون. فلو ان كل المجتمع بشخصياته وقفوا بكل جرأة أمام انتهاك القانون في قضية حوادث شارع المعارض لما تكرر الخطأ ذاته في نشر الصور والاتهامات في قضية ما سمي بـ «الخلية». كيف استطاع هؤلاء في هذه القضية أيضا إلقاء التهم جزافا قبل ان يقول القضاء كلمته، ولماذا تم التساهل بوضع صورهم؟
إن الخطأ ذاته يتكرر وفي النهاية قد يكون هناك أبرياء. فما وقع هناك وقع هنا.
لست في مقام الدفاع أو الهجوم، ولكن المصلحة الوطنية تقتضي ان نتعاطى مع أي حادث بمنطق قانوني وإنساني ووطني، فهؤلاء هم اخواننا وأبناؤنا يجب أن نراعي سيادة القانون معهم، فهم مازالوا في مربع الاتهام ومن الخطأ تلبيسهم نعوت «الارهاب» ويجب علينا أن نقف موقفا إنسانيا مع أهاليهم وذلك بتفقدهم والسؤال عنهم. فحتى لو فرضنا - جدلا - أنه ثبتت مستقبلا تهمة على أحد منهم، فينبغي ألا ننسى أبناءه أو أهله، وهذه هي أخلاقية الإسلام تفرض علينا ذلك.
إن وقفة بعض الصحافيين وبعض المثقفين مع سيادة القانون ومبدأ العدالة في هذا الملف، وكذلك موقف الجمعيات الحقوقية لدليل على أن البحرينيين سباقون إلى مراعاة حقوق الإنسان للحفاظ على ترسيخ العدالة في أي ملف لأجل صالح الوطن والمواطن.
إن المجتمع البحريني شاهد هذا العام بانتهاكين لحقوق الإنسان. الأول حدث في قضية شارع المعارض، والثاني في قضية ما سمي بـ «الخلية»، والانتهاك يكمنان في الاتهامات الخطيرة والمباشرة لأناسٍ مازال القضاء لم يقل كلمته فيهم.
في الأمس (شارع المعارض) ذهب المثقفون حدا من التنطع في بداية الحادث باتهام من وضعت صورهم في الصحافة على أنهم «مفسدون»... «مخربون... مدعومون من - انظر إلى سرعة الاتهام - الخارج (نظرية المؤامرة)». وبالغ بعض النواب إلى درجة مباركة موقف نشر صورهم في الصحافة، مبررا ذلك بحجة «كي يكونوا مثالا سيئا ونماذج لا يقتدى بها لشباب البحرين» مخالفا في ذلك الموقف البرلماني الذي ينبغي أن يتخذه للدفاع عن المتهم حتى تثبت إدانته.
وراح البعض يتهم الصحافة بأنها «تدافع عن مشبوهين، وأنها التمست أعذارا لهم».
وراح البعض يزج اسم المعارضة في القضية، بينما راح آخر يطالب «بالضرب بيدٍ من حديد» و«بقطع الأرجل والأيدي». وكل ذلك والقضاء البحريني لمّا يقل كلمته بعد.
الأسلوب الخاطئ الذي ارتكب في الملف الأول لاشك أنه أثر في القضية الأخرى قضية «الخلية»، لأن الاتهامات هنا أيضا بدأت تطلق نفسها من دون محاسبة، مثلا انهم «ارهابيون» و«يريدون ضرب أمن المواطن» وراح بعض الكتاب يثبت الأمر على رغم ان التحقيقات مازالت في بداية عملها.
إن عملية الحشد الاتهامي عملية خاطئة، وهي من العوامل التي تربك سير العدالة، وهناك مقولة قديمة تقول: «من يضرب القانون اليوم لمصلحتك، غدا يضربه لخراب بيتك»، فالأولى سيادة القانون والتعاطي بمبدأ المساواة ، لأن تشويه أي متهم وتلبيسه أية صورة قبل أن تأخذ العدالة مجراها لا يمكن أن يغفر، وخصوصا إذا اكتشفت في نهاية المطاف ان هناك أبرياء. لذلك الكلمة واحدة - من دون أدنى تفريق - والموقف واحد كما تم في ملف شارع المعارض كذلك في ملف ما سمي بـ «الخلية» يجب أن تكون هناك شفافية في الطرح وعدم تسرع.
اندهش الشارع البحريني بالأحكام القاسية التي وقعت على المتهمين في قضية «شارع المعارض»، فحتى بعض المحامين وصفها «القاسية»، ولكن لنا هنا أسئلة نحب أن نطرحها مازالت عالقة لم ترَ أية إيجابية ومازالت العوائل تسأل بها وكلها تصب في ان للقضية بعدا سياسيا أيضا، فمنها:
1- هل من حق العوائل أن ترفع قضية على بعض المسئولين الذين ألبسوا أبناءهم تهمة «الارهاب»، وانهم مدفوعون من أناس وراءهم في الخارج، وان هناك «خفايا» سيفصح عنها لاحقا؟ هل لنا أن نطالب القضاء بمساءلة هذه الاتهامات؟
2- لماذا منع بعض النواب من الاتصال بالمتهمين عندما طلبا ذلك؟ هل هناك خشية من شيء؟
3- لماذا لم يسمح بعقد لجنة متابعة برلمانية لهذا الملف؟
4- لقد كانت هناك عراقيل لبعض ناشطي حقوق الإنسان في الاتصال بالمتهمين؟
5- هناك أكثر من 1500 شخص كما ظهر في التلفزيون، ولكن المتهمين قلائل على رغم ان بعض من ظهرت صورهم في التلفزيون ولم يتم القبض عليهم.
6- هل يمكن أن تقبل شهادة «رجل أمن» ضد أحد المتهمين الذي أقيم عليه الحكم وهو يعتبر جزءا من القضية أحد وطرفي المسألة، وتعتبر شهادته مجروحة؟ فهل تثبت قضايا لشهود هم طرف في قضية واحدة؟
وفي الختام نقول: المجتمع البحريني يريد سيادة للقانون بلا تمييز، وكما شهد المجتمع محاكمة لمواطنين في شارع المعارض، هل سيشهد محاكمة للمسئولين عما حدث في البنك البحريني السعودي؟
- هل سيحاكم من ثبتت عليه الممارسات الفاسدة في عمله؟
- هل سيحاكم ضابط متهم في قضايا مالية كبيرة هرب إلى الخارج، وهو يعمل في وزارة الداخلية أم ان مصيره سيكون كمصير العقيد عادل فليفل، إذ عاد إلى الوطن على رغم سجله الحافل بكل شيء؟
- لماذا لا يقوم المجلس النيابي باستجواب مسئولي الوزارات التي يعلم الناس بما يحصل فيها من تجاورات؟
تجاوزات كثيرة، ولكن على رغم كل ذلك لم نسمع عن محاكمة ولا اتهام ولا استجواب لا لوزير كبير ولا لمسئول صغير! الديمقراطية لا يمكن أن تحقق مجتزأة وبطريقة انتقائية. يجب أن يسود القانون على الجميع وألا تضعف صدقية كل مؤسساتنا بما فيها المؤسسات المرتبطة بالأمن والقضاء والعدل. وفي نهاية المطاف يبقى السؤال: مَنْ يحاكم مَنْ؟ ولماذا فقط هؤلاء يقدمون إلى المحاكمة؟
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 169 - الجمعة 21 فبراير 2003م الموافق 19 ذي الحجة 1423هـ