تجددت الأزمة التركية. وهناك مشكلة حقيقية حين تتأزم تركيا. والتاريخ المعاصر يشهد على حالات كانت فيها «آسيا الصغرى» نقطة توتر أشعلت الكثير من الحروب. فهذه الدولة الصغرى كانت عظمى منذ قرابة قرن. وكانت الأولى في العالم قبل قرون ثلاثة. فاسطنبول حين كانت عاصمة الخلافة الإسلامية (السلطنة العثمانية) شكلت القطب الجاذب للسياسات الدولية. وحين كانت اسطنبول مدينة كانت لندن وباريس مجرد قرى، وواشنطن لم تكن موجودة على الخريطة السياسية.
الأزمات التركية من النوع المختلف، وعادة تكون من العيار الثقيل نظرا إلى الامتدادات الحضارية - الثقافية لهذه الدولة الكبرى، التي تحولت مع الزمن إلى دولة عادية اقتصاديا... ولكن هيبتها السياسية استمرت ترمي بثقلها التاريخي - الجغرافي على التوازنات الدولية.
في فترة «الحرب الباردة» تحولت تركيا إلى حاجة استراتيجية بحكم موقعها الجغرافي. فهي تتحكم في مضيقي البوسفور والدردنيل. وهي تطل على الشاطئ الجنوبي للبحر الأسود، وتواجه أساطيل الاتحاد السوفياتي التي تحاول العبور إلى المياه الدافئة (البحر المتوسط).
إلى ذلك كانت تركيا ترمي بثقلها على كتف الحدود الشمالية لسورية والعراق، وتقع في جبالها منابع الفرات ودجلة. ومن ناحية الشرق هناك إيران تلك الدولة الممتدة من حدود أفغانستان شرقا إلى حدود تركيا غربا.
ازدادت أهمية تلك الجغرافيا بعد سقوط الشاه، وانهيار مراكز التنصت الأميركية على التحركات السوفياتية على طول حدود موسكو الجنوبية باستثناء تلك التي تقع على الجانب التركي. وبسبب تلك التحولات في إيران وبعدها في أفغانستان ازدادت الحاجة الأطلسية (الأميركية - الأوروبية) إلى الموقع الجغرافي - التركي. فتحولت مناطق الأناضول إلى مهابط للطائرات العسكرية وتأسست القواعد الجوية ومراكز التنصت وأعيد تسليح الجيش التركي وتحديث قطاعاته ليصبح الأول عدديا ضمن المنظومة الأطلسية العسكرية.
بعد انتهاء «الحرب الباردة» تبدلت الأحوال ولم تتبدل الجغرافيا. تبخر الاتحاد السوفياتي ودمرت قوة العراق العسكرية في العام 1991، إلا أن الموقع التركي تراجعت أهميته جزئيا وبقي محافظا على دوره في أكثر من مكان. فتركيا التاريخية (السلطنة العثمانية) كانت حاضرة بقوة في أزمة انهيار الاتحاد اليوغوسلافي (كوسوفو والبوسنة) وفي البانيا وفي بلغاريا وفي مجموع الجمهوريات الإسلامية الخمس المستقلة عن الكرملين، كذلك في جورجيا والشيشان. فالتاريخ أعاد تجديد الجغرافيا وأعطى لتركيا مكانها السياسي في الحلف الأطلسي من دون أن يتحول «المكان السياسي» إلى موقع اقتصادي في السوق الأوروبية (الاتحاد الأوروبي).
استغلت الولايات المتحدة المخاوف الأوروبية من تركيا التاريخية (السلطنة) لتلعب ورقة أنقرة في الضغط على دول الاتحاد الأوروبي مستفيدة من ميزتها الجغرافية في منطقة استراتيجية حساسة تعتبر الرابط - الفاصل بين شرق أوروبا وغرب آسيا.
ربحت واشنطن كثيرا من موقع تركيا ودورها، إلا أن أنقرة لم تستفد إلا القليل من حاجة الولايات المتحدة. وفي حرب الخليج الثانية استخدمت إدارة بوش الأب القواعد والمهابط والممرات التركية مقابل وعود أميركية لم تنفذها واشنطن بعد نهاية الحرب وهزيمة العراق.
الآن تريد إدارة بوش الابن لعب الخدعة نفسها. استغلال الموقع التركي مقابل الوعود في وقت تعاني أنقرة من أزمة اقتصادية بسبب تداعيات حرب 1991 على تجارتها مع العراق.
خسرت تركيا قرابة 40 إلى 50 مليار دولار بسبب انهيار تجارتها مع العراق خلال الـ 12 سنة الماضية مقابل وعود أميركية لم تنفذ. وتريد واشنطن الآن استخدام الموقع التركي مقابل تجديد الوعود، وتأجيل تنفيذها إلى فترة ما بعد الحرب والانتهاء من نظام صدام حسين.
تركيا تحاول جاهدة تعديل قواعد اللعبة وكسب الكثير من المطالب وتنفيذ بعض الوعود قبل الحرب لا بعدها. فأنقرة متخوفة من تكرار سيناريو الأب مع الابن. بل ربما يلجأ الابن إلى أسوأ مما فعله الأب، وخصوصا إذا نجح في احتلال بغداد والسيطرة على العراق. فالحاجة الأميركية إلى تركيا ستتقلص وستتراجع أهمية موقعها الجغرافي وسيبدأ الضغط على الحدود التركية من الجانب العراقي من طريق الأكراد وأنابيب النفط الممدودة من الموصل وكركوك إلى شواطئ البحر المتوسط.
الحكومة التركية لا تعترض على الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة، إلا انها تتعارض معها في التفاصيل، وخصوصا حين تصل اللعبة إلى المس بالمصالح الاقتصادية والموقع الجغرافي ومستقبل العلاقات بعد الحرب على العراق.
المشكلة إذن حقيقية وليست مناورة سياسية. وتجدد الأزمة التركية أولا مع أوروبا، وثانيا مع الولايات المتحدة، مجرد إشارات سريعة إلى نوعية التحولات التي ستطرأ على المنطقة في القريب العاجل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 169 - الجمعة 21 فبراير 2003م الموافق 19 ذي الحجة 1423هـ