إن التحشد العسكري الأميركي المتصاعد والمتواصل في منطقة الخليج يحمل رسالتين إلى العالم لا بد من تصديق إحداهما: الأولى، إن الحرب حتمية وستقع لا محالة. والثانية، ان كل ما تقوم به الادارة الاميركية من تصريحات ومناورات سياسية ومن حشد عسكري يدخل في اطار الخدع السياسية وتكتيكات الحرب النفسية التي تبغي تحقيق نصر بلا حرب.
وفيما يستمر عدد القوات بالتزايد، فإن الولايات المتحدة بات لها القليل جدا من الخيارات للتراجع أو الانسحاب في هذه المرحلة، ربما الذريعة الوحيدة المتبقية لتحقيق انسحاب عسكري يحفظ لادارة الرئيس جورج بوش ماء الوجه تتمثل في أن يلجأ الرئيس العراقي وعائلته إلى خارج البلاد الى منفى آمن. وهذا ما سعت إلى بلوغه الولايات المتحدة من خلال سلسلة القذائف الاعلامية والسياسية وحتى الدبلوماسية التي فجرتها على مدى الاسابيع الماضية مرفقة ذلك بتصعيد لحشودها العسكرية وابراز تصميمها الحربي، غير ان جهودها في هذا المجال باءت بالفشل.
واكثر من ذلك بدت الامور اكثر تعقيدا بالنسبة إلى السياسة الاميركية على المستوى العالمي. فالرئيس الاميركي الذي بدا مهووسا إلى حد المرض او العقدة لجهة الالحاح على تغيير النظام السياسي في بغداد بات يواجه اليوم تحديا في ان الاصرار على خوض الحرب ضد العراق قد يجعل الولايات المتحدة تفقد حلفاءها، وربما فقد الرئيس الاميركي شعبيته الداخلية اذا ما قرر خوض هذه الحرب من دون الحلفاء الرئيسيين ومن دون تخويل من الامم المتحدة. وذلك على خلفية التصدع في الحلف الأطلسي (الناتو) والانقسام داخل مجلس الامن وزخم الاعتراض المتواصل من قبل الرأي العام العالمي الذي عبرت وتعبر عنه المظاهرات غير المسبوقة في مختلف بقاع الارض. ولذلك فإن الرئيس الاميركي ربما لا يغامر بمستقبله السياسي ومستقبل ادارته وحزبه من اجل خوض حرب تبرز فيها المطامع النفطية والنوازع الشخصية اقوى الدوافع لشنها.
ومما يرجح هذه الـ (ربما)، تأكيد الرئيس بوش مرة اخرى على ان القضية بالنسبة إليه هي امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وان نزع هذه الاسلحة سيتم بطريقة او بأخرى. فضلا عن تصريحات الوزير كولن باول بعد الجلسة المغلقة لمجلس الامن التي اعقبت الاستماع لتقرير بليكس - البرادعي، الذي اشار فيها إلى انه لا تزال الفرصة متاحة للسلام. ولكنه اكد ان ذلك السلام لن يتحقق من دون ممارسة الضغوط. وكأنه اراد بذلك التأكيد على مضمون الرسالة الثانية للحشد العسكري الذي تقوم به بلاده في المنطقة.
وعلى أية حال، يوافق الكثير من المحللين بل والسياسيين على انه فعلا ان الحشد العسكري الاميركي الهائل كان له دوره الضاغط على بغداد لإبداء المزيد من التعاون مع المفتشين. وطبقا لأمين عام الامم المتحدة كوفي عنان فإن الضغط العسكري الأميركي كان فعّالا لأنه، في اعتقاده ما كان العراق ليسمح لمفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة بالعودة إلى بغداد بعد غياب أربع سنوات من دون مثل هذا الضغط.
وطبعا هناك الكثيرون الذين لا يروق لهم مثل هذا التقويم، لسبب بسيط ألا وهو ان منطق التقويم السابق يختزل الازمة إلى مجرد نزع اسلحة العراق المحظورة... وكأنها هي القضية فعلا. في حين ان القاصي والداني يعلم ان هذا العنوان ليس سوى ذريعة يراد بها اعادة رسم خريطة المنطقة جغرافيا وعسكريا واستراتيجيا واقتصاديا لدواعي ومتطلبات ذات بعد دولي لا يغيب عنها التحسب للمستقبل.
ولعل الموقف الالماني المتشبث برفض الحرب الاميركية على العراق تحت مختلف الحجج والذرائع، انما في جوهره يعبر عن الادراك بأبعاد الاهداف الدولية لتلك الحرب. وهو الذي صارت تشارك المانيا فيه فرنسا ودول عدة في الاتحاد الاوروبي فضلا عن روسيا والصين والهند.
وهكذا اصبح العراق العنوان لعصيان معظم الدول الكبرى ضد هيمنة الولايات المتحدة، تلك الهيمنة التي اتسمت بها العلاقات الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل 12 سنة، وأضحت الكثير من الدول الكبرى الطامحة لبناء عالم متعدد الاقطاب تستثمر الازمة العراقية لوضع لبنة النظام التعددي، مثلما سعى الرأي العام في كثير من دول العالم لرفض منطق المعايير الاميركية في العولمة وادارة شئون المجتمع الدولي والانساني ووجد ضالته في الموضوع العراقي الامر الذي جعل العدد الاكبر من القيادات السياسية في دول العالم المختلفة ان تحرص على ارضاء الرأي العام باتخاذ مواقف مناوئة لأميركا وخصوصا في الموضوع العراقي.
وفي المقابل فإن العنوان ذاته اتخذ من قبل اميركا لتأكيد هيمنتها المتفردة واحاديتها. فصدقية القوة الاميركية وصدارتها انما تمتحن في العراق. ويؤكد المقربون من الادارة الاميركية ان كل الحكومات الملمة بأسلوب الرئيس بوش وتفكير مستشاريه كانوا على دراية ان الخطوة التالية بعد القرار 1441 في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 ستكون محاولة اختلاق مخالفة عراقية والتصدي لها عبر شن حرب اميركية على العراق.
ولذلك فإن عددا من المراقبين بات يرى انه اذا انتهت الازمة من دون تغيير النظام في بغداد، واذا قبلت الولايات المتحدة التي ارسلت نحو 200 ألف من قواتها الى المنطقة لتعيدهم من دون تحقيق ذاك الهدف، فإن صدقية القوة الاميركية في الشئون الدولية عموما، ستتضرر بشدة، وربما بلا امكانية لاصلاح الضرر. ولهذا السبب تبدو ان الحرب حتمية الوقوع، وانه لا مفر امام الرئيس الاميركي وادارته الا خوض هذه الحرب.
وبناء على ما تقدم، فإن الحرب على العراق سواء وقعت ام لم تقع، فإن نتائجها ستكون عميقة التأثير على صوغ النظام العالمي في مرحلة انقضاء الازمة العراقية سواء عبر الحل العسكري او الحل الدبلوماسي. ففي كل الاحوال، فإن لعبة الامم ستأخذ شكلا مقننا وان شكلا من الاحادية الجامدة او التعددية المرنة للنظام العالمي سينجم في نهاية الازمة العراقية. وهذا ما يجعل الازمة العراقية ان تكون ازمة القرن الحادي والعشرين لان نتائجها ستبلور العلاقات الدولية في العقود المقبلة.
ولأن خواص الازمة اضحت كذلك، فإن الحرب بالنسبة إلى أميركا حتمية، غير ان خوضها في ظل المؤشرات الحالية، يعني على الاقل اربعة امور مهمة:
اولا: خوضها من دون موافقة الامم المتحدة وبعدد اقل من الحلفاء، وبحلفاء لا يمثلون سوى مسميات، فنحن نعلم الآن ان ايطاليا كما حكومة طوني بلير في بريطانيا لا يمكنهما المضي قدما في مساندة حرب بوش ضد العراق من دون موافقة الامم المتحدة خصوصا في ظل الرفض الواسع النطاق من قبل الناخبين في الدولتين لهذه الحرب. وبهذا المعنى، فإن الحلفاء الذين سيسهمون في حرب بوش، لن يكونوا من الحلفاء الحقيقيين والتاريخيين للولايات المتحدة. بل مجرد حلفاء ظاهرين يشكلون ارقاما فحسب.
ثانيا: ان الادارة الاميركية ستخوض مثل هذه الحرب في ظل غياب موافقة الامم المتحدة وتردي دعم الحلفاء بأقل تأييد من الداخل الاميركي وبأوسع معارضة، وبالتالي فإن ذلك سيجبر الادارة ان تخوض هذه الحرب ضمن مدى زمني قصير، ومن دون ان تتكبد خسائر بالارواح، مع وجود قيود مشددة تفرض إلحاق اضرار اقل بالمدنيين العراقيين للحيلولة دون استثارة المزيد من موجات الرفض العالمي والاميركي لهذه الحرب الامر الذي يحرج الادارة الاميركية. وبهذا المعنى، فإن الادارة الاميركية ستضطر إلى الاكتفاء في خوض هذه الحرب باستراتيجية القصف عن بعد، ومعنى ذلك التخلي عن الهدف المعلن والصعب وهو الاطاحة بالنظام السياسي في بغداد.
ثالثا: انهيار التحالف المضاد للارهاب، بل وإنبات اسباب جديدة فضلا عن تعميق ظروف من شأنها ان تشجع على المزيد من الارهاب. فضلا عما ستحدثه هذه من مآسٍ ومخلفات كارثية انسانيا واقتصاديا على المستوى العالمي.
رابعا: ان خوض الحرب وفق هذه التصورات ستؤدي حتما إلى انهيار مؤسسة الامم المتحدة، والتضحية بالحلفاء الاساسيين على الضفة الاخرى من الاطلسي وبهذا المعنى، فإن التصدع لن يصيب حلف الناتو فحسب بل مفهوم وأسس الحضارة الغربية، ولعل ذلك قد ينفي مفهوم او اختراع صراع الحضارات، ليبلور نشوب صراع داخل الحضارة الواحدة... وفي النتيجة النهائية سيعمق من كراهية الشعوب والدول إلى اميركا
العدد 168 - الخميس 20 فبراير 2003م الموافق 18 ذي الحجة 1423هـ