تعتبر الأخلاقية في التعامل مع الحوادث من أكبر التحديات التي تواجهنا جميعا. فعندما ألقي القبض على عدد من المواطنين بتهمة الانتماء إلى «خلية»، كان لزاما علينا، في عالم الصحافة أن نختار عباراتنا بدقة... فهل يتم إطلاق كلمة «الخلية» من دون مقوستين؟ وهل يمكن وصف الخلية بالإرهابية؟ وهل يحق لنا نشر الأسماء قبل أن تحكم المحكمة عليهم؟ وهل نصدّق ما يردنا من أحد المعتقلين عن سوء معاملة وننشره؟ أم نصدّق البيان الرسمي وننشره من دون تعليق؟ أم نأخذ بوجهة نظر الأهالي الذين أذهلتهم أساليب التفتيش؟ أم نتخذ موقفا من دون عواطف ونصرّح بأن أي عمل يرتبط بسلاح فهو مدان، وأن أي شخص يقوم بمثل هذا العمل عليه أن يتوقع أساليب رادعة؟
هذه الأسئلة «الأخلاقية» تظهر كل مرة نواجه فيها حادثا مهما في حياتنا، فعندما حدث العبث والتخريب في رأس السنة الميلادية في شارع المعارض كنا أمام اختبار مماثل... هل نوافق على اتهام الشباب بأنهم ضمن مخطط تخريبي ونتهم هذا الطرف أو ذاك بناء على تصريحات بالهمز واللمز؟ هل نربط ما حدث بدوافع سياسية ودينية مع علمنا بخطورة هذا الربط؟ أم نحاول الابتعاد عن مثل هذا الربط إلا إذا ثبت العكس على طريقة عادلة؟
فيما لو سمحنا لأنفسنا بالانزلاق في الوصف من دون التدقيق فإننا قد نقع في أخطاء بحق الآخرين. فهناك من يطرح بصورة عمومية أن كل الأشخاص من هذه الفئة المجتمعية أو من هذه الجالية أو الزائرين من هذا البلد إنما هم «أصحاب مشكلات». وهذا الطرح، سواء كان بالتلميح أو بالتصريح، يعتبر ظلما لأناس أبرياء... فليس كل فرد وليست كل فئة وليس كل زائر يمكن إطلاق الوصف الموحد عليه، و«المسيّس» في كثير من الأحيان.
إن دور الصحافة هو نقل الخبر أولا والتحقيق في خلفيات الخبر وتوضيح الأمور المحيطة بالحوادث التي تمر على الناس يوميا. والصحافة يمكنها أن تتحول إلى بوق دعائي يحاول توجيه الأنظار إلى قضية دون أخرى، أو يحاول تشويه سمعة هذا الشخص أو تلك الفئة، ولكن مثل هذه الصحافة ليست لها مكانة محترمة لدى الرأي العام. وفي فترة الانفتاح السياسي الذي نعيشه حاليا فإننا جميعا مسئولون عن كل كلمة نقولها وعن آثارها. فإذا كانت الكلمة من أجل الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو من أجل إصلاح ذات البين، فنعم الكلمة. أما إذا كانت الكلمة إنما هي ترديد لموقف سياسي أو رسمي بصورة ببغاوية فإننا نضر بالمشروع الإصلاحي الذي دشنه جلالة الملك. فالمشروع الإصلاحي يجب أن يكون مختلفا في أساليب التعامل مع الحياة العامة، وإلا أصبح وجوده وعدمه واحدا.
الصحافة المستقلة تسمى «سلطة رابعة» لأنها تعبّر عن الرأي العام وتعبّر عن أصحاب المهن وجماعات الضغط بالدرجة الأولى. أما السلطة التنفيذية فلديها وسائلها الكثيرة لإيصال ما تريد، بل إن كل كلمة تصدر عن وزير أو مدير فإن وقعها له أثر مباشر على حياة الناس بمجرد صدورها. وإذا كانت الكلمة التي يطلقها الوزير قرارا يؤثر على الناس بصورة كبيرة، فإن مسئولية الصحافة هي في مساءلة الوزير وما كان يقصد وفيما إذا كانت لديه مبررات؟ فيما لو كان الوزير أصدر بيانا أو قرارا خاصا بمنزله أو بعائلته فإن الصحافة ليس لها حق التدخل في شأنه الخاص وماذا يعمل داخل منزله. أما إذا كان الوزير يصدر قرارا ويعمّمه على وزارته أو يصدره في «الجريدة الرسمية» فإن عليه أن يتوقع المساءلة. فهو وزير مسئول عن كل ما يقول ويفعل، وعليه أن يشرح بنفسه للمواطنين الذين سيتأثرون بأقواله وأفعاله.
أما الوزير أو المسئول الذي يرفض المساءلة فإن لديه خيارين، الأول أن يستقيل ويريح نفسه ويريح البلاد والعباد مما يقول ويفعل، أو أن يسعى إلى إحلال النهج الدكتاتوري ويقمع ويحارب ويستغل سلطاته لقمع أية مساءلة وأي اعتراض. على أن النهج القمعي إذا استخدم لن ينفع أحدا والبلدان التي تقمع ينتهي وضعها إلى الفساد والانهيار الاقتصادي لاحقا.
الصحافة في عهد الإصلاح يجب أن تكون مستقلة في رأيها، كما يجب أن تستشعر المسئولية الوطنية في كل ما تنشر، وعليها بعد ذلك أن تتحمل تحديات التغطية المستقلة التي قد لا تعجب هذا المسئول أو ذلك المتنفذ، أو تلك الجهة المحلية أو الأجنبية...
والصحافة في عهد الإصلاح هي صحافة الخبر الصادق والتحليل المسئول وليست صحافة تختص بنشر البيانات الرسمية والإعلانات التجارية فقط. فالخبر الرسمي والإعلان التجاري لا قيمة لهما إذا اختفى المحتوى الصحافي المستقل
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 168 - الخميس 20 فبراير 2003م الموافق 18 ذي الحجة 1423هـ