إنه أسبوع المساومات. كل دولة اوروبية تعيد قراءة مواقفها في ضوء مصالحها الخاصة وحدود التقاء «المصالح القومية» بالمصلحة الاوروبية المشتركة. هذه محطة أولى.
المحطة الثانية هي تسوية الخلافات داخل الاتحاد الاوروبي واعادة تجديد موقف القارة في ضوء توازن المصالح وترتيب المعادلة السياسية بين المحاور الاساسية التي نهضت لمعالجة موضوع العراق.
المحطة الثالثة هي اعادة انتاج تسوية اوروبية آخذة في الاعتبار وجهات نظر التكتلات على انواعها وتحديدا محور بريطانيا المدعوم من اسبانيا وايطاليا وبعض دول أوروبا الشرقية يقابله المحور الفرنسي - الالماني - البلجيكي المدعوم من بقية دول الاتحاد.
المحطة الرابعة ترتيب تسوية اوروبية - أميركية تحت سقف التحالف الامني الموصوف بحلف شمال الاطلسي (الناتو) بهدف بلورة صيغة تفاهم على سلسلة أمور تبدأ بالطلب التركي المقدم من انقرة لحمايتها من هجوم عراقي صاروخي محتمل في حال شنت الولايات المتحدة حربها... وتنتهي بالاتفاق على صيغة بيان يشكل اساس التفاهم على بيان مشترك يصدر بصيغة قرار دولي عن مجلس الامن.
حتى الآن لم يتم التوصل بشكل نهائي إلى صيغة مشتركة. فالمحور الفرنسي - الالماني - البلجيكي تراجع بعض الشيء في موضوع طلب الحماية الذي تقدمت به تركيا. والتراجع ينص على الموافقة على تقديم الحماية في حال تعرضت للهجوم ولكنه لم ينص على تقديم الحماية قبل تعرض تركيا للهجوم. فالتراجع افتراضي وليس خطوة استباقية. أي أن اوروبا تقدم المساعدة (الحماية العسكرية) بعد حصول الهجوم المفترض وليس قبله. بريطانيا وافقت على التراجع والولايات المتحدة رحبت به. بريطانيا من جهتها خففت من حدة لهجتها الحربية ومالت اكثر إلى جانب اعطاء فرصة لفرق التفتيش للبحث عن «أسلحة الدمار الشامل» واشترطت ألا تكون الفترة إلى ما لا نهاية.
هذا التراجع يعني عمليا تأخير صدور قرار ثان عن مجلس الامن والاكتفاء بالقرار 1441 صيغة مشتركة تكفي الآن لمراجعة المواقف واستكمال مهمات البحث والتفتيش إلى ان يتم التفاهم على موقف يلبي حاجات ومصالح الدول على اختلاف توجهاتها.
تخفيف اللهجة الحربية في الجانب البريطاني له تأثيراته القوية على الجانب الاميركي. فالولايات المتحدة بحاجة معنوية إلى لندن لتغطية سياستها الهجومية الدولية داخليا. فالرأي العام الاميركي لا يميل إلى الحرب في حال ترددت بريطانيا، وترتفع حماسته في حال وافقت لندن واشتركت قواتها، ولو رمزيا، في تلك المعركة. فالرأي العام الأميركي يثق بتقليدية المواقف البريطانية وثوابتها اكثر من مزاجية الادارة الاميركية ومغامراتها العسكرية.
بريطانيا ايضا بحاجة إلى غطاء اميركي لسياساتها الاوروبية. فلندن من دون دعم واشنطن تضعف معنويا وتتقلص امكانات ضغطها السياسي على بقية دول الاتحاد الاوروبي. فقوة بريطانيا في الولايات المتحدة، ومن دونها لا تستطيع لعب دورها المؤثر في كسر التوازنات الاوروبية .
وعلى هذا يمكن القول ان بريطانيا هي الآن نقطة التوازن في المعادلة الاوروبية - الاميركية. ومواقفها نصف اوروبية ونصف اميركية. وهذه المناصفة تعطي ميزة لبريطانيا في ترجيح كفة التعادل. ومراقبة تحركاتها تكشف إلى حد كبير المنحى العام الذي ستتجه نحوه المعادلة الدولية التي تعمل الدول على تحضيرها قبل تقديمها إلى مجلس الامن.
بريطانيا نقطة قوة، ونقطة ضعف. فهي قوة لاميركا في اوروبا، ومن دونها لا تستطيع واشنطن تمرير سياساتها على دول الاتحاد. وهي نقطة ضعف لاوروبا ومن دونها لا يستطيع الاتحاد صوغ سياسات ثابتة لها وزنها الدولي بسبب علاقات بريطانيا الخاصة مع الولايات المتحدة.
ولان بريطانيا هي نقطة التوازن في المعادلة الاوروبية - الاميركية لعبت مظاهرة لندن (مليون انسان) ضد الحرب دورها في ارباك رئيس الحكومة العمالي طوني بلير. فالمظاهرة هي الاضخم في تاريخ بريطانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولم تشهد شوارع لندن مثيلا لها، حتى تلك المظاهرات الكبرى التي حصلت في السبعينات ضد حرب الولايات المتحدة على فيتنام.
الضغط الاوروبي على بريطانيا أثمر جزئيا. والجزء مهم في معادلة القوة التي على اساسها سيتم تغليب كفة الحرب على السلم أو العكس. فالمعادلة الدولية وصلت إلى توازن دقيق وكل جزء له قيمته التي لا تقدر بوزنه بل بتأثيره الخاص على الاتجاه الدولي العام. فحين يتعادل الكبار يصبح للصغار دورهم في ترجيح قوة على أخرى.
وصلنا الآن إلى المحطة الرابعة (التسوية الاوروبية الاميركية) والمعادلة التي ستخرج منها ستكون اساس التسوية الدولية في مجلس الامن. وهي المحطة الخامسة والاخيرة قبل ترجيح كفة على أخرى.
الدول العربية غافلة (غافية) عن لعب دورها واكتشاف قوتها. والمخاوف هي ان تنهض من نومها بعد مرور القطار في محطته الخامسة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 167 - الأربعاء 19 فبراير 2003م الموافق 17 ذي الحجة 1423هـ