تتناسل غاضريات من واقع هذه الأمة... غاضريات ترمق العرب بطرف جارح. ففيما العراق مشغول بإحصاء ضحاياه وقتلاه ويحضّر أكفان أبنائه استعدادا للقيامة المقبلة، يكتشف أن مواضع القبور مجهزة بالشواهد والأسماء وحتى الزهور التي أخذت مواضعها بشكل وصورة معجزتين!!
إلى أين يولّي وجهه الباحث عن سماء لا يتسرب منها إلا الغاز وحقد البارود؟ إلى أين يولي وجهه الباحث عن متر أمان في أرض مهددة بتناسل زلازل وخيانات؟ ... إلى أين يولي وجهه الباحث عن صلاة لا ترغمه المؤامرات على قصرها؟
أستدعي شاهد دم العصر وجميع العصور... أستدعي صورة وجسد الذبيح على بوغاء الكرامة... أستدعي نسوة مجللات بالسواد ونور الله... أستدعي محنة الطريق الطويلة الموجعة بسياط جلاديها... أستدعي الغريب في ملحمة معرفة الله... أستدعي الرجال الذين نافحوا عن كياناتنا ووجودنا وكرامتنا وماء وجوهنا... أستدعي الغريبة بمنطقها الذي لم يدع للأبواق فاصلة من تبرير أو نقطة ارتكاز... أستدعي العليل الذي أعاد إلى الدنيا عافيتها بفضل عزلة ليست ككل العزلات المشبوهة... أستدعي وجوها وأكفا وأعناقا وأطرافا وبلاغات ومواقف وأسرا... لترى التكالب الكوني على فاتحة العرب المعرفية وهي تدك بمنجنيقات محلقة وسنابك بدواليب وأعنة من حديد لها صهيل كريه يشبه حشرجة الموت.
أستدعي كل شواهد الرفض الحق... لتقف على مهازل العرب في محيط يعج بأحذية العسكر وزمجرة الآلة المتعطشة لتراكم مزيد من الشواهد والأنقاض.
أستدعي ملجأ العامرية... بوغاء من لحم معجون بالإسمنت والحديد والعظام... أستدعي عمى التكنولوجيا الموجه إلى حصد مزيد من الغنائم.
أستوحش من السفر... أرنو بطرفي إلى جهات تؤمها الخلائق وفاء بالنذور... أنحلني السفر أتقلب بين طوامير العرب... فثمة غاضرية تعد لها ذئاب ينعشها الدم... يا للدم الذي بات علامة فارقة أحال ماء العرب إلى نجيع وبوغاء.
للغريبة في معراجها الروحي، لطفلة أدماها قرط طمع فيه صاحب حطام، لجسد ظل عرضة للريح وشمس متسجرة، لذهول أعاد العالم إلى صوابه، لملحمة علمت الخلق أن «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم، فاذا محصوا بالبلاء قلَّ الديانون»، لكف تصل العالم بالقيم بعد البتر، لعمود يخترق الرأس ليعيد العالم إلى جادته، لنهر اللعنة حين يعز على الأحبة، لفزع الحريق في ليل المجزرة، لنحر طفل كأنه الفضة... يسيل نصا يفضح وهن الأنظمة وعبثها، للقفار التي شهدت برفعة أسراها وهم في طريقهم نحو استجواب عاهر، للذليل المتبختر في ذله... ينكت ثنايا شاهد العصر وشهيده، للمفوهة تزلزل ردة غابرة، لجيرون شاهدا من حصى يعري السرائر، للمنبر الزلزلة وهو يصدح بـ «أنا ابن من...» لقباب يقف عندها العالم منكسرا، لمزارات هي فاتحة الأمل وأول النظر! لمرتزقة لم تسعفهم البورصات والأرصدة المفتوحة لإثبات أن المضي في طريق الله تهور... والسعي نحو مناجاة أكيدة... مجازفة، والموت على الحق، انتحار، والحياة بالذل شرف المقاتل. هكذا يصبح امتهان نصوص السلطة خروجا على الملة! واحتراف التزوير يتطلب إعادة نظر في النطفة!
لشاهد العصر يلتقي قتلته في حضرة الله، للغريبة تفتتح فصاحة العالم، لطفلة تدشن أول الحكمة، لأسر هو أبجدية الحرية الحقة، لجسد مدمى... معفر منه يبدأ السمو درسه الأول، لكف مبتورة كأنها كرنفالات أجنحة، لعمود الرأس ممهدا لعمود الدين، للنهر الذي عزَّ على الظامئ الغريب يتحول إلى امتحان موقف، للمتبختر الذي تفخر به زبالات التاريخ، للنحر الذي منه تبدأ البسملة، للحريق الذي أهدى الدنيا وهج المرابطة، للقفار التي أزهرت بصفوة الله ونوره، للمفوهة في موقف يؤكد أن التراب سماء في جوار الله، للمنبر الزلزلة يحيل عروشا وحديدا إلى أول القش وفاتحة الطين، للمرتزقة ما يلي: تتأرجح البورصات وتضمر الأرصدة، وتبقى مناجاة الله في عليائه
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 167 - الأربعاء 19 فبراير 2003م الموافق 17 ذي الحجة 1423هـ