العدد 167 - الأربعاء 19 فبراير 2003م الموافق 17 ذي الحجة 1423هـ

الفضائيات العربية وإحياء السينما الأميركية القديمة

كشف مسلسل تلفزيوني أميركي في أوائل الثمانينات عن أهمية السينما في صناعة الترفيه وكشف عن الدور المهمّ لرجال الأعمال في قيادة وتوجيه الرأي العام إلى اقتصاد الاستهلاك. وأشار المسلسل إلى رجال هذه الصناعة باسم «تجار الأحلام». ولا يحفى على أحد ما قدمته هذه الصناعة، إلى المجهود الحربي الأميركي خلال الحرب العالمية الأولى، جنبا إلى جنب صناعة السلاح. فقد صور كثير من الأفلام في تلك الحقبة مساوئ الخصوم وشوّه صورتهم في أذهان المشاهدين. ومن أبرز أفلام توجيه الرأي العام الأميركي كانت تلك التي تحمل مشاهد تصوّر فظاعة القيصر البروسي ويلهالم الثاني وتسخر منه ومن شجاعته العسكرية بطريقة كاريكاتيرية ما ألهب حماسة الأميركيين وقوّى عزيمتهم القتالية وعبأ معنويات الجماهير في تأييد أبنائهم الجنود المقاتلين وراء البحار لحماية الحرية والديمقراطية والحياة الأفضل، وهي ثلاثية الشعار الأميركي.

واستمر استخدام النظام السياسي الأميركي لمنتوجات «تجار الأحلام» بعد منتصف الثلاثينات لتهيئة الجماهير من أجل قتال النازية إذا لزم الأمر. ولم تكن هذه الأفلام تعمل وحدها في مسار تشكيل الرأي العام الأميركي، فقد لعبت أفلام الرسوم المتحركة دورا يكاد يكون مشابها بقوة أفلام «تجار الأحلام». إذ صورت شجاعة الجندي الأميركي وأخلاقة العالية في ساحة المعركة في مقابل جبن الخصوم وبربريتهم. أما على الصعيد الاقتصادي، أو الاجتماعي، فكانت الرسوم المتحركة تدفع امام الناشئة وأهليهم بأشرطة تحمل الرسائل الاعلامية اللازمة لتوجيه الرأي العام نحو الأهداف المرجوة من مثل اقتناء السيارة أو الثلاجة وغير ذلك من منتوجات الصناعة الاستهلاكية، أو تشويه صورة الهنود الحمر وغرس صورة نمطية سيئة لسكان العالم الجديد الأصليين.

هذه الأفكار والمعلومات ليست أسرارا تذاع لأول مرة. فقد كتب عنها الكثير. أقربها إلينا وأهمها على الاطلاق كتاب «المتلاعبون بالعقول» لمؤلفه هربرت شيللر وهو مترجم من ضمن سلسلة عالم المعرفة التي تصدر في الكويت.

خطة السياسيين الأميركيين هذه في استخدام السينما أداة للتعبئة النفسية لم تكن الخطة الوحيدة في العالم. فعلى سبيل المثال، اقتبس الجنرال فرانكو هذه الوسيلة ليحارب بها أعداءه اليساريين بعد انتصاره عليهم في أواخر الثلاثينات . وبعد الحرب العالمية الثانية، سارع الدكتاتور الاسباني إلى التعاقد مع الشركات السينمائية الهولوودية لإنتاج مئات الأفلام الناطقة بالاسبانية سنويا لنشر الفكر اليميني المضاد للأفكار الشيوعية التي انتصر عليها العام 1939، ومن جهة أخرى لتعميق الأسس النفسية للاقتصاد الرأسمالي. كما أنفق فرانكو من موازنة الدولة بسخاء كبير على بناء آلاف دور عرض الأفلام السينمائية في جميع أرجاء اسبانيا، مدنها وقراها. تشرح باحثتان أميركيتان عن هذه السياسة في مقال نشرته مترجما مجلة «المدى» العام 2000م. وتشير الباحثتان أورورا بوش، وفرناندا رنكون، إلى مضامين الأفلام التي فصلتها هولوود وفق مطالب فرانكو، وغالبيتها كانت قصصا وحكايات ومغامرات تمجد الملكية الفردية وتذم الاشتراكية وتنشر الفكر المعادي للشيوعية وتروج لنمط الشخصية الاستهلاكية. واستنزفت هذه السياسة كثيرا من موازنة اسبانيا. ولاقت هذه السياسة الاعلامية استحسانا ودعما كبيرين من الكنيسة الكاثوليكية في البلاد، على حد تقرير الباحثتين المذكورتين: بوش ورنكون.

هذه المقدمة المختصرة تعرض للقراء أهمية الفيلم السينمائي ودوره في تكوين الصور النمطية عن «الآخر» لدى المشاهد. ومن المعروف أن الشعب الأميركي في غالبيته العظمى يجهل العالم الخارجي كل الجهل، وأن أية معرفة يكتسبها عن «الآخر»، يكتسبها في غالبية الأحيان عبر الأفلام الهوليوودية. فهو لا يعرف الصين أو اليابان إلا من خلال أفلام هوليوود. وكذلك الأمر معه في معارفة العامة. فهو لا يعرف عن البراكين أو الزلازل أو العواصف مثلا، إلا عبر الشاشة الفضية. وقد شكلت منتوجات استوديوهات كاليفورنيا جميع أفلام حقبة الحرب الباردة، فكانت معلومات المواطن الأميركي عن «الآخر» السوفياتي مستقاة بالكامل من هذه المنتوجات، كأفلام العميل جيمس بوند وغيره. كذلك، رأى العالم قوة السلاح الأميركي على رغم هزيمة أميركا في الصين وكوريا وكثير من مناطق نزاع الحرب الباردة، رآها العالم الثالث بالذات عبر افلام هوليوود العسكرية التي لم تخف أبدا في آخر كل فيلم عبارات شكر المنتج وطاقم العاملين في الفيلم يقدمونها سلاح الطيران أو الجيش أو المارينز أو البحرية... وفي هذه الأفلام، كان الجندي الأميركي مثالا للرجولة والقوة والبطولة والوسامة والاناقة والحظ مع النساء في جميع المناطق التي تجتاحها هذه الجيوش الهوليوودية الطيبة. ومن الأمثلة المهولة على تأثير هذه الأفلام على المشاهدين، كيفية نشرها لظاهرة اللبان (العلكة). فالجندي الأميركي يعلك بطريقة «هوليوودية» و«بطولية»، ومن آخر صرعات هذا الاتجاه التسويقي استنباط شخصية رامبو الذي لا يقهره أحد، حتى أقوى أسلحة القطاعات الأميركية العسكرية التي دربته في معسكراتها بادئ الأمر، فيما نظارته السوداء الساحرة لا تسقط عن وجهه أو جبينه على رغم قتاله وعنفوانه.

وأقرب الأمثلة إلينا هذه الأيام ما قام به الرئيس بوش خلال حربه على طالبان حين شعر أن شعبية بن لادن لم تهتزّ في الاعلام الأميركي كما يجب، فدعا إلى البيت الأبيض، أهم مئة شخصية هوليوودية من «تجار الأحلام» ليساعدوه في تشويه صورة الخصم وتمجيد السياسة الأميركية. ولا ضرورة للخوض في تشويه صورة الرجل العربي والمسلم الذي له ملامح شرق أوسطية في وسائط الاعلام وصناعة الترفيه الأميركية... إلى آخر المعزوفة التي بات يعرفها القاصي والداني.

وإذا نظرنا في واقع الأمر إلى حروب أميركا بعد هزيمتها في فيتنام واستيقاظ الشعب الأميركي على حقيقة ما جرى له، رأينا أنه في حروب أميركا الحقيقية بعد فيتنام، لم يبرز الجندي الأميركي فيها للعيان أو المشاهدة البصرية كما هو في الأفلام الهوليوودية. ففي لبنان 1982 أو في الصومال مثلا، ظهر الجندي الأميركي كأي إنسان عادي. وأما بعد ذلك، في حرب العراق الأولى، وما تلاها من حملات ثعلب الصحراء وغيرها، وفي الحرب على الصرب ويوغوسلافيا، وفي الحرب على طالبان وأفغانستان، لم يظهر الجندي الأميركي أمام انظار الجماهير العالمية إلا من خلال التقارير الاخبارية. لا، بل كان العالم يرى عبر شبكاتهم الاخبارية حربا تكنولوجية تدار عن بعد، سماها أحد رؤسائهم بـ (حرب النجوم). ونتذكر جميعا ما قاله أبناء بن لادن الراكبين على حطام طائرة أميركية أسقطوها بعد أسابيع من القصف الجوي المخيف والموجه عن بعد: أين رامبو الأميركي؟ دعوه يأتي ليقاتل.

وشاع بين ركام تلك الحروب، ومع التركيز الشديد على التفوق التقني الأميركي، أن أي رئيس في أميركا لا يستطيع أن يفقد أرواح أي من جنوده في ساحات المعارك لأنه سيفقد أصوات ذويهم في المعارك الانتخابية. على أرض الواقع، تأكد للجماهير العالمية بعد كثير من معارك أميركا التقنية والجوية في العراق وأفغانستان ويوغوسلافيا وليبيا والسودان والصومال وغيرها أن هذا القصف الجوي العشوائي الضخم لا يحقق النصر الحاسم من دون التقدم البشري على ساحة المعركة. ومنذ هزيمة فيتنام، لم يشهد العالم قتالا أميركيا حقيقيا على أرض المعارك كما كان الحال في فيتنام أو كمبوديا أو كما كان في كوريا وعلى أرض أوروبا خلال محاربة النازية. لكن في حقبة «اختفاء» الجندي الأميركي عن مسرح العمليات العسكرية، أصبح التأكيد والتشديد الاعلامي والضخ النفسي عبر وسائل الترفيه وتجارة الأحلام أن بطولة الأميركي هي في تفوقه التقني، وغزوه الفضاء باطلاق سفن عملاقة تجوب المجرات، وفي قدرته الخارقة على التصدي للكائنات الفضائية التي ستدمر الحضارة والبشرية، وفي خوارقه المعجزة بتدمير الاجرام السماوية التي ستصطدم بالأرض... إلى آخر هذه المسلسلة الخائبة من الخيالات والأوهام. وزاد الحقن الاعلامي الأميركي للصورة النمطية للمقاتل الأميركي الذي لا يقهر، بالترويج لطوفان الألعاب الالكترونية وبرامج الكمبيوتر المسماة ألعاب الاستراتيجية مثل لعبة (الانذار الأحمر) وهي ألعاب محببة للناشئة والشباب يلبس فيها الابطال ألبسة مارينز الجيش الأميركي بالضبط يعيثون في أجساد «العدو» قتلا، وفي منشآته تدميرا.

الخلاصة المستفادة من المقدمة الثانية السابقة تؤكد أن الأفلام الأميركية يقصد منها نشر صورة نمطية ايجابية جدا للرجل الأميركي المقاتل. والنقاط التي نستخلصها من مشاهدة مجموعة من الأفلام الأميركية القديمة، سواء الحربية منها أو العاطفية أو الكاوبوي، تعزز نقاط القوة عند البطل النمطي في هذه الأفلام. فهو رجل وسيم وقوي وصادق وشجاع ولا يغضب إلا من الخطأ ولا يسكت عن اساءة وبامكانه أن يتحدى الأقدار والصعاب والأهوال ولا تفقده المباغتة توازنه ويستطيع أن يقوم بالمحال ولا يعجز عن شيء، وبعد كل هذا هو البطل المنتصر الوحيد، والفائز المظفر الأول والاخير... باختصار هو السوبرمان الذي كان فيلسوف القوة نيتشه يبحث عنه، بل هو هبة السماء للأرض لانقاذ البشر والخليقة جمعاء.

في دوامة الحوادث الجارية على ساحة الوطن العربي هذه الأيام، وضمن استعدادات الولايات المتحدة للحرب في المنطقة، لا بد من شحذ الاذهان وتنشيط الذاكرة وايقاظ الاهتمام لدى السكان في دائرة جغرافية واسعة حول مسرح المعركة المقبلة، باعادة بث الصورة النمطية الخرقة للرجل الأميركي الذي سنراه عما قليل يمشي بيننا ويجوب شوارعنا ويدوس تراب وطننا الكبير. ليس أفضل للاميركان القائمين على التخطيط للحرب من عرض الأفلام التي تعزز الصورة النمطية عن الرجل الأميركي. بيد أن المتاح للمخطط الأميركي اليوم ليس مفصلا على قدر المطلوب.

الكثرة الكاثرة من الأفلام الحديثة التي تنتجها هوليوود هذه الأيام تتحدث عن السحر الأسود والعنف العدمي والخيال العلمي اللامعقول. إنها افلام مليئة بالحيل السينمائية الرقمية وهي افلام السحر الأسود وعبادة الشيطان ومصاصي الدماء والكونت دراكولا وعجائب المخلوقات وغرائب الموجودات... البطل فيها مخلوق غير طبيعي سواء أكان مريضا بفيروس مص الدماء أو كان مخلوقا مستنسخا ذا قطع مركبة تعطيه القوة الخارقة. وهذه لا تسعف في تنشيط ذاكرتنا بالجندي الاميركي القديم، الاسطورة. الأفلام السابقة التي كانت رائجة في حقبة الحرب الباردة، واستمرت إلى الثمانينات وأوائل التسعينات هي النوعية المطلوبة. والوقت لا يسعف المخطط الأميركي بانتاج مثيلاتها الآن، فإنه بحاجة قصوى إليها في هذه اللحظة، فليبدأ الآن بعرضها على المشاهدين المستهدفين بحملته الاعلامية.

ويا للعجب. فجأة، ومن دون سبب أو تبرير، ومنذ شهرين أو أكثر قليلا، ازدحمت الفضائيات العربية بأفلام الحرب الأميركية. بل تأسست قنوات خاصة للافلام، واحدة في الأردن وواحدة لدبي، وثالثة لمركز الشرق الأوسط الاذاعي (إم بي سي)، بالاضافة إلى ما تجود به علينا قنوات دريم والجديد واللبنانية والمستقبل وإن بي إن وغيرها. ومنها، يعرضون علينا ما هب ودب!! كلها أفلام قديمة!! أفلام قديمة الانتاج تحكي قصصا عن الحرب الباردة وذيولها، يكون فيها البطل الأميركي مقاتلا عنيفا مفتول العضلات، سوبرمان من الطراز الرفيع، يلبس الثياب العسكرية المشابهة لثياب الجنود الأميركان الذين تزدحم بهم نشرات أخبار الفضائيات العربية هذه الايام. فجأة، ومن دون مبررات، أخرج القائمون على البرامج في المحطات العربية أفلاما عتيقة مهلهلة كانت في خزائن المحفوطات الاثرية. أخرجوا لنا أفلاما مكررة القصص والحكايات لابطال سينمائيين أميركان وانجليز مثل كلينت ايستوود وشين كنوري وغاري كوبر وغريغوري بيك وديفيد نيفين وجاك بلانس وسلفستر ستالون... المشاهد شبه المثقف فنيا الذي يتابع هذه الأفلام يرى من دون جهد أن التمثيل فيها والتصوير والحيل السينمائية وغيرها في الواقع هو أداء ذو مستوى ضعيف إذا قورن بأفلام اليوم. وهي افلام تحكي قصصا غير مسلية ولا تمت للواقع المعاصر بصلة، ولا سبب وجيها لعرضها على الجمهور العربي في هذه الظروف الحساسة التي تمر بها الأمة العربية والاسلامية. فما السبب؟!

لماذا هذه الافلام الآن، ولماذا الاكثار منها بهذه الشكل المغثي، ولماذا الاصرار على نوعية معنية منها تظهر «بطولة» السوبرمان الأميركي المقاتل؟

أسئلة ملحة اطرحها أمام القائمين على تنسيق البرامج في الفضائيات العربية.

عليكم أيها السادة الاعلاميون الرسميون أن تفنعونا بأن عرضكم علينا هذه الأفلام الهابطة فنيا ومعنويا، وبالكثرة المغثية هذه، هو بهدف تسلية الجماهير العربية، وتثقيفها، وتنمية قيمها، وإعدادها للدخول في مضمار مستقبل تتحقق فيه الطموحات بتنمية مجتمعية شاملة (وهو الهدف الاسمى من الاعلام الرسمي للدولة الحديثة في المجتمعات المدنية).

آه... في فمي ماء، ولكن..





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً