العدد 166 - الثلثاء 18 فبراير 2003م الموافق 16 ذي الحجة 1423هـ

بين منطق الدولة ومنطق الأيديولوجيا

اختلاف السياسة بين المعارضة والحكم

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

عندما تنتقل أحزاب المعارضة إلى السلطة، تفقد آليا «هالة» المعارضة وتبدأ في تعديل خطابها تدريجيا وفق مقتضيات جديدة لم تكن تأخذها في الحسبان من قبل. فللدولة آلياتها ومنطقها، لا يدركهما الا من وجد نفسه مسئولا عن قيادة شعب بعد ان كان مسئولا على تنظيم او حزب او جبهة. هذا التحول في المواقف والاختيارات يمكن ان يمس الجوانب الاقتصادية او الاجتماعية او حتى الايديولوجية، لكنه يبرز وخصوصا في مجال السياسة الخارجية. فخصوم الامس قد ينقلبون حلفاء، والاصدقاء قد يضحى بهم من أجل تحقيق مصالح اكثر اهمية وحيوية. لهذا غالبا ما يفاجأ البعض بتغير مواقف اصدقاء لهم انتقلوا إلى الحكم وظنوا بأنهم سيكونون لهم عونا، فإذا بهم يصبحون لخصمهم داعما وشريكا.

في هذا السياق يمكن استعراض بعض العينات، ليتأكد ان الظاهرة تشمل جميع الاتجاهات تقريبا، وتكاد لا تستثني احدا. فمصلحة الدولة تبقى فوق كل اعتبار واقوى من كل الايديولوجيات.

نبدأ بالمغرب

عندما طلب الملك الراحل الحسن الثاني من زعيم «الاتحاد الاشتراكي» عبدالرحمن اليوسفي تشكيل ما سمي يومها بحكومة التناوب، استبشرت أوساط المعارضة التونسية، ورأت في ذلك حدثا ستكون له تداعياته على الحياة السياسية في تونس. هذه الاوساط كانت ولا تزال تربطها بالاحزاب المغربية وجمعياتها وصحفها ومثقفيها علاقات قوية وقديمة. اذ لا يكاد يحدث اي اشكال سياسي او نقابي او حقوقي في تونس، الا ويكون له صدى مباشر في الصحف المغربية، وفي مقدمتها صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» الناطقة باسم حزب «الاتحاد الاشتراكي». لهذا بقدر ما تفاءلت الاوساط الديمقراطية التونسية بتعيين اليوسفي على رأس الحكومة المغربية، بقدر ما رأت السلطة والنخبة الحاكمة في ذلك مؤشرا سلبيا قد يزيد من تعكير العلاقات الثنائية التي لم تكن جيدة آنذاك.

ما حصل لاحقا شكل مفاجأة للجميع، فاليوسفي كشف عن بعد آخر في شخصيته ورؤيته السياسية، وهي شخصية رجل الدولة المختلفة في الكثير من ملامحها عن شخصية المعارض لحكم بلاده. وعلى هذا الاساس عمل جاهدا على طمأنة السلطة التونسية، ونجح في اخراج العلاقات الثنائية من حال البرود وأزمة الثقة، مما جعلها تتطور بسرعة وتكتسي بعدا مؤسساتيا. وعلى رغم ان تلك المرحلة شهدت توترا بين الحكم في تونس والمعارضة، وسجن خلالها بعض الاصدقاء القريبين من اليوسفي، لازمت صحف «الاتحاد الاشتراكي» الصمت المطبق، ما أثار استياء الاوساط الديمقراطية التونسية. لقد فضل اليوسفي باعتباره رئيس حكومة ان يختار القنوات الدبلوماسية، ويعتمد على رصيد الثقة الذي اقامه مع بعض كبار المسئولين التونسيين ليلفت النظر لبعض الحالات أو الملفات بشكل مهذب ورقيق وبعيد عن أضواء الصحافة.

ننتقل إلى السودان

مرت العلاقات التونسية السودانية في مطلع التسعينات بحال توتر قصوى انتهت بقطع الروابط الدبلوماسية بين البلدين، اتهمت الحكومة التونسية السودانيين بفتح معسكرات تدريب لأنصار «حركة النهضة» المعارضة. وعلى رغم ان حكومة الخرطوم حاولت يومها ان تهدئ من خواطر السلطات التونسية بنفيها لتلك التهم، فإنها لم تكن تشعر بالحرج عندما كانت في مرحلة اولى تستقبل زعيم حركة النهضة بشكل علني ورسمي. ثم في مرحلة ثانية تم اشعار راشد الغنوشي بضرورة الاخذ في الاعتبار حساسية العلاقة مع الجهات التونسية. وعندما تفجر التحالف بين حسن الترابي وعمر البشير، قررت حكومة الخرطوم الاسراع بتطبيع العلاقات مع تونس، وبتسوية عدد من الملفات التي كادت ان تعيد التوتر المفتوح بين الطرفين. كانت تلك الخطوة تندرج ضمن سياسية فك العزلة الدولية عن السودان التي فرضتها الولايات المتحدة، ولم يقف الامر عند زيارة وزير الخارجية السوداني لتونس، وتنشيط اللجنة المشتركة وتكوين مجلس مشترك لرجال الاعمال، وانما حصلت المفاجأة عندما شمل التعاون الجوانب الأمنية، وأفضى إلى تسليم تونسيين مقيمين في السودان منذ فترة طويلة، ومتهمين بالانتماء إلى حركة النهضة. وبقدر ما شكل ذلك صدمة قوية لانصار هذه الحركة وقيادتها، بقدر ما أثار ارتياح السلطة التونسية التي حققت بذلك مكسبا سياسيا مهما. هذه النتيجة شجعت المخابرات الجزائرية على مواصلة مساعيها مع الطرف السوداني الذي اعطى موافقته في 24 يناير/كانون الثاني الماضي على التعاون في مجال ملاحقة العناصر القيادية لـ «الجماعة الاسلامية المسلحة» و«المجموعة السلفية للدعوة والقتال»، التي قد تكون لجأت إلى الخرطوم.

نتوقف عند المحطة الإيرانية

في البدء كان يوجد تيار مؤثر داخل أجهزة السلطة الايرانية يعتقد بأن الثورة قابلة للتصدير، وان الاطاحة بالشاه ليس سوى مقدمة للعصف بكل الانظمة «الطاغوتية». لهذا الغرض تم إيواء عشرات التنظيمات المقموعة في بلادها، ووجهت القاذفات الاعلامية الايرانية نيرانها نحو عدد واسع من الحكومات. في تلك الاجواء، استغلت السلطة في تونس في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة تعاطف الاسلاميين التونسيين مع الثورة، واتهمتهم بالتآمر لقلب نظام الحكم، وبادرت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية.

مع نهاية المرحلة التي قادها الرئيس علي أكبر رفسنجاني، بدأت طهران تعيد بناء سياستها الخارجية تجاه البلاد العربية، في اتجاه تقديم مصالح ايران على كل الاعتبارات الاخرى. ومع تسلم الرئيس محمد خاتمي قيادة الجمهورية الاسلامية، تدعم هذا التوجه، وأخذت الحياة تدب في شرايين العلاقات التونسية الايرانية، حتى بلغت في الفترة الاخيرة مستوى لافتا للنظر. وتجلى ذلك في كثافة الزيارات التي قام بها المسئولون الايرانيون، وكان آخرها الزيارة الرسمية لنائب الرئيس خاتمي، الذي لا يستبعد ان يحل بنفسه ضيفا على تونس قبل نهاية ولايته الثانية. ولعلها المرة الاولى التي ألقى فيها فقيه شيعي قدم من ايران لمحاضرة دينية خلال شهر رمضان الاخير، اكد خلالها على «الجهود الرسمية الكبيرة التي تبذل في تونس من أجل دعم الاسلام وحماية الثقافة الاسلامية».

هذا التقارب الرسمي التونسي الايراني زاد من عزلة حركة النهضة على الصعيد الاسلامي واعتبرته موجها ضدها. لذلك عندما تم الافراج عن آية الله العظمى حسين علي منتظري، وجه اليه راشد الغنوشي برقية تهنئة جاء فيها: «ما أشد حاجة الأمة إلى أمثالكم... لاعطاء الاولوية لمبادئ الاسلام والعلاقة مع الشعوب وحركات الاسلام في كفاحها ضد الظلم والاستكبار المحلي والدولي، بدل تغليب مصالح قومية عبر السعي لاسترضاء قوى الهيمنة». مضيفا «نعم، للدول ضروراتها ولكن ليس من غير حدود، حتى لا يتحول الصديق عدوا والحق باطلا والبعيد قريبا».

نختم بتركيا

شاءت الظروف ان يكون أول اختبار يتعرض له «حزب العدالة والتنمية» التركي بعد انتصاره الكاسح في الانتخابات البرلمانية الاخيرة، يتعلق بطبيعة الدور الذي سيكون لأنقرة في الحرب المحتملة على العراق. وهو اختبار تتوافر فيه كل عناصر القسوة السياسية. هل يغلب الحزب قناعاته المبدئية والاخلاقية فيرفض المشاركة في العدوان، ويخسر في المقابل التأييد الاميركي والهدنة الاضطرارية التي منحته اياها المؤسسة العسكرية؟ ام يعطي الاولوية لمصلحته القريبة على حساب المبادئ والعدالة الدولية؟ يحاول الحزب حاليا ان يناور، لكنه اختار في الايام الاخيرة الوقوف على الارضية الاميركية ما جعله يكاد يضحي برهانه على الالتحاق بالاتحاد الاوروبي. دفعته الظروف وموازين القوى إلى البحث عن أقل الاختيارات سوءا واكثر جنيا للمصالح الظرفية، اعتقادا من قيادته بأن الوضع المأزقي الراهن لا يسمح مطلقا بالتمسك بالقدر الادنى من المبادئ والاخلاق السياسية.

هذا وجه من وجوه السياسة، ولعله الوجه الغالب عند استحضار التجارب التاريخية. والمعضلة انه حتى فقهاء السياسة الشرعية، أخضع الكثير منهم المفاهيم الدينية لخدمة هذه السلطة أو تلك، أو لتحقيق مصلحة ظرفية اعتقدوا بأنها مصلحة عامة. ليس هذا تبريرا لمنطق الدولة أية دولة، ولكنه لفت نظر لها لممارسة الحكم من خصوصيات، وفي الآن نفسه دعوة إلى ترك الأوهام، وتعميق النقاش عن العلاقة بين الاخلاق والسياسة

العدد 166 - الثلثاء 18 فبراير 2003م الموافق 16 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً