إلى أي حدٍّ يمكن أن تصل الخلافات الأوروبية على الموضوع العراقي؟ المستشار الالماني أجاب قبل أسبوع عن السؤال: نحن لا نستطيع ان نضحي بالاتحاد الأوروبي والحلف الاطلسي ومصالح القارة من أجل العراق. فأوروبا برأي المستشار أولا والعلاقات مع الولايات المتحدة ثانيا ومصالح كل دولة اوروبية ثالثا... واخيرا يأتي العراق.
المعركة التي خاضتها دول الاتحاد، وتحديدا فرنسا والمانيا وبلجيكا، مدعومة من روسيا والصين عنوانها العراق وجوهرها اوروبا ومصالحها وسيادتها. فالمعركة كانت ضد اميركا وليس من أجل العراق.
منذ فترة ليست طويلة بدأ الصراع الخفي بين دول الاتحاد والولايات المتحدة. وعنوان الصراع كان مَنْ له دور الريادة الاقتصادية في ادارة السياسة الدولية؟ اميركا كانت ترى ان الاقتصاد ليس كافيا لتقرير الاتجاهات. فالقوة الاقتصادية، برأي واشنطن، بحاجة إلى قوة عسكرية. والحماية الأمنية ضرورة سياسية لنمو الاقتصاد واستمرار السيطرة. فمن دون الحلف الاطلسي (الناتو) لا قيمة للاتحاد الأوروبي. فالأطلسي هو الخيمة العسكرية الممتدة على ضفتي المحيط الفاصل - الرابط بين القارتين الأوروبية - الاميركية.
«الناتو» كان مدخل اميركا إلى اوروبا ومن هذا الحلف العسكري مارست واشنطن دورها وفرضت هيمنتها العسكرية على القارة بعد انهيار «حلف وارسو» السوفياتي - الاشتراكي (اوروبا الشرقية).
واشنطن استغلت الأزمة اليوغوسلافية التي انفجرت بعد انتهاء «الحرب الباردة» وتحولت إلى معارك ساخنة طرحت أمام أوروبا مشكلة «الاقليات» في قارة شهد تاريخها الكثير من المذابح آخرها كان ما حصل في الحرب العالمية الثانية حين قادت المانيا النازية اوروبا نحو «معركة نهائية» ضد الآخر المختلف في جنسه ودينه ولونه.
ما حصل في الاتحاد اليوغوسلافي صورة مصغرة عن أوروبا قبل «الحرب الباردة». فتلك الحروب التي دارت في صربيا وكرواتيا والبوسنة وأخيرا كوسوفو بين الأرثوذكس والكاثوليك من جهة واختلافهما واحيانا اتفاقهما على تصفية المسلمين من جهة اخرى كشفت عن احتمال عودة اوروبا إلى فترة الحروب الاهلية «القومية والدينية»... وايضا عن حاجتها إلى حماية خارجية تضبط التوتر التاريخي الذي انفجر في لحظة انهيار «حلف وارسو».
الحروب اليوغوسلافية جددت الحاجة الأوروبية إلى الدور الاميركي على المستوى الامني وبررت استمرار المظلة العسكرية التي تأسس حلفها الاطلسي (الناتو) ردا على الحلف السوفياتي.
إلى المظلة الامنية كانت هناك حاجة اوروبية دائمة إلى المواد الأولية (الخام) والطاقة (النفط والغاز). فالقارة قوية اقتصاديا لكنها لا تملك الخامات فهي بحاجة دائمة إلى استيرادها من دول العالم الثالث (تحديدا افريقيا وآسيا) لاعادة تصنيعها واستخدامها في صناعاتها التحويلية والاستهلاكية والتقنيات على اختلاف حقولها وقطاعاتها.
مسألة الخامات نقطة مهمة في علاقات التوتر بين الولايات المتحدة واوروبا وهي كانت ولاتزال مصدرا للحروب وصراعات الهيمنة والنفوذ. وبسبب الحاجة الأوروبية إلى المظلة العسكرية - الأمنية الاميركية نجحت الولايات المتحدة في صوغ سياسة هجومية دولية دفعت واشنطن نحو بسط نفوذها في مناطق مصادر الطاقة والخامات. فمن يسيطر على المنابع يسيطر على المصبات. ومن ينجح في الهيمنة على مصادر الطاقة والخامات ينل او يحافظ على الميدالية الذهبية والموقع الاول في السباق.
كان هدف الولايات المتحدة بعد الخلاص من الاتحاد السوفياتي هو منع أوروبا من الصعود إلى المرتبة الأولى سياسيا وعسكريا واقتصاديا. وهذا لا يتم الا عن طريق الأمن (الحاجة إلى المظلة الاميركية في الحلف الاطلسي) مضافا اليه ابقاء المحيط الدولي في اجواء التوتر الدائم وافتعال الأزمات والاعداد لاعطاء المبرر السياسي للهجوم العسكري على مصادر الطاقة والخامات.
لذلك شهدت التسعينات من نهاية الحرب الباردة اكبر كمية من الحروب الاثنية والدينية والمذهبية والقبلية في يوغوسلافيا واوروبا الشرقية وفي جمهوريات اسيا الوسطى وبعض «الشرق الأوسط» وبعض جنوب شرقي آسيا والقرن الافريقي وشمال افريقيا ومحيط بحيرة فكتوريا (منابع النيل). ففي تلك المناطق تتجمع مصادر الطاقة والخامات، ومعظم شعوب تلك المناطق الغنية بمصادر القوة (الاقتصاد) ينتمي مصادفة إلى الاسلام.
اختراع العداء للاسلام (الدين والتاريخ والحضارة) ليس لعوامل تاريخية فقط وانما لعبت الجغرافيا دورها ايضا في ترسيم حدود الحروب (صراع الحضارات) حتى يتم تبرير الهجوم على مصادر الطاقة والخامات... ومنع اوروبا من التقدم ومن ثم الاستقلال عن اميركا.
كلام المستشار الالماني عن الخلافات الاوروبية وحدودها القصوى في مناسبة الحديث عن الموضوع العراقي يكشف الأسباب والدوافع الحقيقية لأزمة الاتحاد مع الولايات.
انه صراع مصالح والعراق مجرد عنوان
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 166 - الثلثاء 18 فبراير 2003م الموافق 16 ذي الحجة 1423هـ