تعتبر زيارة رئيس التيار الوطني الحر العماد ميشيل عون لإيران نقلة نوعية للعلاقة الثنائية بين لبنان وإيران أكثر حتى من زيارة كان يمكن أن يقوم بها ما يطلق عليه بالرؤساء الثلاثة للبنان مجتمعين أي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس المجلس النيابي، ليس لأن الرؤساء الثلاثة أقل أهمية أو مقاما من العماد عون، ولا لأن العماد عون بشخصه أكثر أهمية من الرؤساء الثلاثة أو أن إيران أو حليفها حزب الله اصطنعوا أهمية مضاعفة للجنرال عون أو لزيارته لإيران كما راود خيال البعض من المنافسين أو المناكفين أو الحاسدين أو الخصوم الانتخابيين الطبيعيين للجنرال، أبدا.
إن كلمة السر تكمن في من يمثل، وحجم ما يمثل وأهمية ما يمثل هذا الرجل العماد في قامته في الشكل وفي مضمون طرحه في اللحظة التاريخية الراهنة بالذات، وإليكم الدليل:
أولا: إن هذا الرجل العصامي في شخصيته، سواء اتفقت معه أو اختلفت، عندما يزور أي بلد اليوم إنما يمثل بشكل أو بآخر، مسيحيي الشرق العربي والعالم الإسلامي ممن لم تسمح لهم مبادئهم وقيمهم المسيحية الحقة في العقود الثلاثة الماضية كحد أدنى أن يذوبوا في أي كيان أو تجمّع أو محور أو حلف أو تكتل استعماري أو أجنبي إلا تكتل ينشد التغيير والإصلاح للوطن النهائي الذي ينتمون إليه وفي حالة الجنرال فهو الوطن القادم منه إلى إيران أي لبنان، وهي سابقة تكتب له ولتياره الذي صنعه وتكتب لمسيحيي لبنان من صنفه الذين قطعوا مع الغرب الاستعماري ومنهجيته المعوجة القائمة على خلفية الحروب الصليبية والكراهية والحقد وصراع الحضارات.
ثانيا: إن هذا النائب اللبناني الحر الذي يزور إيران اليوم هو بالإضافة إلى أنه يرأس أكبر تكتل برلماني مسيحي حر الإرادة فإنه يمثل الضمير والوجدان الحي لأكبر تكتل شعبي مسيحي، إضافة إلى جمهور إضافي واسع من مختلف الطوائف اللبنانية الأخرى احتضن جمهور مقاومة إسلامية تابعة لحزب معيّن هو غير حزبه وعقيدة غير عقيدته ومناديا بمنهج حياة ربما غير منهج حياته في وقت كان العالم كله البعيد منه والقريب قد تآمر ضده وضد قضيته - على الأقل من وجهة نظر هذا الجمهور والحزب الذي يناصره - في حين أن الجنرال وتياره وقف بوجه تلك الهجمة العالمية الشرسة بحزم وسبح عكس التيار الإقليمي والعالمي وقام عمليا بأكبر عملية حماية وتغطية لجمهور تلك المقاومة وللمقاومة نفسها سيذكرها له التاريخ بحروف من ذهب عندما قرر احتضانهم في كنائسه ومؤسساته وحمايتهم برموش عيونه وكأن الجمهور جمهوره والحزب حزبه لا لشيء إلا دفاعا عن شرف بلاده وشرف القضية التي تجمعه مع أولئك الناس، أي فقط لأنه اعتبر القضية التي قاتل من أجلها الحزب وصمد من أجلها جمهوره هي يجب أن تكون قضيته الأولى هو أيضا وهي فعلا كذلك وإن اختلف مع حامليها والرافعين لراياتها في الدين أو العقيدة أو منهج التعامل.
ثالثا: إن من جملة ما يؤخذ على هذا الجنرال اليوم في محاولة في النيل من زيارته التاريخية هذه أنه حينما اختلف مع أشقائه السوريين يوما وأراد إخراج جيشهم من لبنان لاعتقاده بخطأ استمرار بقائهم فيه بعد انتهاء مهامهم المحددة كان قد أخذ العون وقتها من الرئيس العراقي صدام حسين وهو العدو الشهير لإيران، وأنه أي الجنرال عون كان هو من قاتل ذلك الجيش الشقيق قتالا صلبا لم يلن فيه ولم يهن، وأنه هو من استعان بالمجتمع الدولي لإصدار قرار محاسبة سورية وهو من ساهم عمليا في اللغط الدائر اليوم حول نزع سلاح المقاومة... في حين أن كل ذلك يكتب له عندما يزور إيران اليوم مرفوع الهامة رغم هذه الخلفية وبالمقابل فإن ذلك يكتب لإيران أيضا وهي تستقبله اليوم راضية ومسرورة وفخورة به رغم معرفتها بتلك الخلفية، لأن ذلك يزيد من أهمية الرجل ولا ينقص منه شيئا.
على العكس من ذلك فإن الذين ينتقدونه هم الذين في موقف الحرج والشك والريبة من أمرهم، فهم من جهة لا يملكون من هذه السوابق شيئا، فيما تتوارد الأخبار عن وقوفهم في صف المنتظرين المطالبين بإلحاح إصدار تأشيرة السفر السريعة لهم إلى كل من طهران ودمشق من جهة أخرى، فيما يلحظ القاصي والداني اليوم كيف أن طهران تستقبل الجنرال الحر اليوم وهو المستغني والمختلف عنها، فيما تنتظره دمشق وهو الند لا التابع لها كما عودتها بعض القامات الصغيرة التي تتطاول اليوم على الجنرال الحر.
أليست هذه هي مناقبية الأحرار عندما يختلفون وحين يتفقون؟! وهل هناك من شك يبقى بعد الذي قيل عن ظروف وحيثيات زيارة الجنرال إلى طهران، بأنها زيارة اللحظة التاريخية بكل معنى الكلمة؟!، إنها مناقبية الأحرار والسياديين والاستقلاليين الحقيقيين الذين عندما يختلفون بشجاعة، وعندما يتفقون بشجاعة أيضا وفي وضح النهار، ولا يجدون ضيرا حتى في نقد ذاتهم عندما يتطلب الأمر كما فعل الجنرال العماد علنا وعلى الهواء مباشرة عندما أعلن يوما أنه إذا كان صحيحا فإنني أنا المسئول عن اللغط الحالي حول نزع سلاح المقاومة بسبب مسئوليتي عن إقرار قانون محاسبة سورية لكنني عندما اكتشفت أن أميركا تريد الأخذ بلبنان إلى المجهول وإلى الحرب الأهلية ولا تريد مصلحة لبنان فإنني اليوم لن أسمح مطلقا بأية حركة أو خطوة تريد النيل من سلاح المقاومة بواسطة التدخل الأجنبي، في الوقت الذي كان فيه البعض ينادي علنا بعودة عهد الانتداب مفاخرا وبالحرف الواحد بالقول نعم نريد انتدابا أجنبيا لحل مشكلتنا مع الذين اختلفنا معهم في الداخل ومع الجارة سورية كما جاء في تصريحات مسجلة على إحدى الفضائيات الشهيرة لأحد الرموز البارزة التي شنت هجومها اللاذع على زيارة العماد لطهران نذكرها هنا للتاريخ ولأخذ العبرة فقط.
لذلك كله نقول إن الزيارة التي قام بها الجنرال عون إلى طهران ليست فقط لا تنقص شيئا من استقلالية موقفه وموقف التيار وتكتل التغيير والإصلاح ولا من لبنان السيادة والحرية والاستقلال بل إنها على العكس تماما تعطي للبنان قوة إضافية لا يستطيع أحد سواه إعطاءها له، وتمنح قوة مضافة أيضا للرؤساء الثلاثة وهم يفكرون بزيارة البلدان المختلفة في العالم بحثا عن دعم ومساندة بلدهم المنكوب، كما وتساهم في ترسيخ الوحدة الوطنية للبنان السيد الحر المستقل أكثر فأكثر.
لا بل إن البعض يذهب إلى أبعد من ذلك، وخاصة عندما يرى ما يقوم به الاحتلال الأجنبي وبطانته السوداء في العراق من تهجير وتنكيل بالمسيحيين خصوصا وبالآخر من أهل الوطن الواحد عموما، فيضع الزيارة التاريخية لهذا الجنرال الحر في مصاف التأسيس للعلاقات السليمة بين الأنا والآخر داخل الأقطار المختلفة والعلاقات البينية في المنطقة عموما أي في العالمين العربي والإسلامي اللذين يحتضنان موزائيكا وتنوعا ثريا وغنيا من الأقوام والمِلل والشعوب والأمم لا يصلح أمرها الحالي واستمرار تعايشها السلمي وتنميتها ومستقبلها الواعد إلا بهذا النموذج الذي يرسيه اليوم عماد الشجاعة في الاختلاف كما في الاتفاق بينه وبين الشقيقة والصديقة إيران والشقيقة والجارة سورية
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 2235 - السبت 18 أكتوبر 2008م الموافق 17 شوال 1429هـ