منذ أن تفجُّرت الأزمة المالية العولمية والكتابات لا تنقطع مطالبة الأنظمة السياسية العربية بإعادة النظر في توجهاتها وسياساتها وممارساتها الاقتصادية التي سارت عبر العقدين الأخيرين من السنين في نهوج وطرقات الرأسمالية العولمية الانجلوسكسونية البالغة التوحّش والانفلات.
وأكُّد الكثيرون، ونحن منهم، أنه إذا كان لابدّ من السّير في ركاب الرأسمالية فلتكن رأسمالية السوق الاجتماعية المماثلة لرأسمالية أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية التي رضيت بأن تتعايش مع دولة الرعاية الاجتماعية الملتزمة بحماية المجموعات الضعيفة والمهمّشة في المجتمعات والساعية نحو نوع من المساواة الاقتصادية والاجتماعية بين مختلف شرائح المجتمع.
واليوم والعالم كله على أبواب كساد اقتصادي قد يطول، فإن إعادة النظر في الاستراتيجيات الاقتصادية للدول العربية، وخصوصا دول البترول العربية، لن يكفي.
إن هناك حاجة لأن تواكب إعادة النظر الاقتصادية تلك مراجعة سياسية تتعلق بتكوين وظائف ومسئوليات الدولة، ذلك أن الموجة الرأسمالية العولمية الأخيرة أرادت، وبإلحاح شديد، إحداث تآكل وتصدع في المفاهيم التي قامت عليها الدولة الحديثة في كل مكان، أي إضعاف سلطة الدولة وتهميشها إلى أبعد الحدود، لتصعد مكانها قوى السوق الاستهلاكية المعولمة العابرة للقارات والقوى الاستهلاكية المحلية التابعة لها. وهكذا رأينا من جهة الاندفاع المجنون الفاسد لبيع ما كانت الدولة العربية تملكه بأبخس الأثمان وقصْر ذلك البيع على الأزلام والأتباع الانتهازيين، ومن جهة أخرى لخصخصة الخدمات الاجتماعية، من مثل الصحة والتعليم والثقافة وشئون العمل، والتخلّي التدريجي عن كل المكتسبات الاجتماعية التي ناضلت جموع الجماهير العربية عبر العقود من السّنين لجعلها حقوقا معترفا بها بين الحقوق الإنسانية الأخرى.
النقاش الاقتصادي في هذه المرة، إذا، يجب أن يسير مع النقاش السياسي. والإصلاح الاقتصادي يجب أن يحميه ويضمن عدم تزييفه وإفساده وحرفه عن الطريق القويم في المستقبل إصلاح سياسي مبني على عدة أسس كبرى.
من بين هذه الأسس أن الدولة هي كائن اجتماعي وجد لخدمة الفرد والجماعة والمجتمع، أي أن لديها التزاما أخلاقيا وقيميا لا تتخلى عنه بسبب ضغوط من جهات مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي أو الشركات الكبرى أو الدول الرأسمالية الاستعمارية أو قوى السوق المحلية.
وعليه فإن الشفافية وخضوع مسئولي ومؤسسات الدولة للمساءلة والمحاسبة وتنظيم استقلالية مختلف السلطات ومراقبة بعضها بعضا، وحرية التعبير والتجمُّع ووجود مجتمع مدني فاعل، أي وجود مكونات النظام الديمقراطي العادل المعبّر عن إرادة الناس، إن كل ذلك سيضمن قيام الدولة بمسئولياتها من جهة وسيضمن إلى حدٍّ ما عدم انقلاب السوق إلى مؤسسة فاسدة ظالمة انتهازية أنانية.
إن الدول الغربية الرأسمالية، التي يتبع مسئولونا أساليب تعاملها مع الأزمات، تستطيع أن تنشغل حصرا عبر الشهور القادمة بالجوانب الاقتصادية من هذه الأزمة الكبرى، وذلك لأنها بنت أسس حياتها السياسية عبر قرون من الزمن واستقرت على ضوابط ومحدّدات سياسية تحكم مجتمعاتها.
أما عندنا، في أرض العرب، فالأمر يختلف. إننا مازلنا في طور السيرورة المتحركة لحياتنا السياسية، وبالتالي سنحتاج إزاء ما أصاب العالم وأصابنا أن ننظر إلى ما أصابنا نظرة أكثر شمولية وأبعد عمقا.
فإذا كانت مجتمعات الغرب تعطس وتسعل وتحتاج إلى الدّفء فإننا قد وصلنا إلى مرحلة الإصابة بجراثيم التهاب الرئة التي تنخر في رئاتنا وتسمم دماءنا وتحتاج بالتالي إلى أكثر من دفء، تحتاج إلى علاج جذري.
لكن هناك مشكلة حقيقية في هذا الشأن، إذ هل يستطيع معظم أصحاب القرار، قراء صحف «نيويورك تايمز» و «هيرالد تريبون» و «واشنطن بوست» ومجلات «نيوزويك وتايمز»، مدمنو حضور المنتديات الاقتصادية العولمية، مسبّحو بحمد واشنطن ولندن وباريس وزائروها بانتظام، محتقرو ثقافة وتاريخ وأحلام وآمال مجتمعاتهم، هل سيستطيع هؤلاء الاقتناع بأن المطلوب سيكون أكثر من ضخّ الأموال في مصارفهم المركزية والوطنية وأكثر من شراء أسهم الشركات أو إصلاح أنظمة البورصات؟، أشعر بوجع بأنه مثلما ضاعت من بين أيدينا فرص تاريخية كبرى ستضيع هذه الفرصة وسنستمر في نومنا التاريخي، نذرف دموع كل كوابيسه
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 2235 - السبت 18 أكتوبر 2008م الموافق 17 شوال 1429هـ