ينشغل الناس بما سيحدث للعراق أو لا يحدث لها في الاسابيع القليلة المقبلة، وتنشغل بعض الدول العربية المحيطة بالعراق والمتاخمة لها بما يمكن ان تكون عليه أوضاعها في المستقبل، وعلينا في الكويت النظر إلى ما بعد الازمة، والاوفق ان ينشغل بالموضوع السياسيون والمهتمون بالشأن العام، وبدأت البوادر لذلك في الاجتماع الذي دعا إليه «مركز الدراسات الاستراتيجية» في جامعة الكويت، والتأم ليوم واحد في 20 الشهر الماضي، وتحدث فيه ممثلون لعدد من التيارات السياسية في الكويت عن نظرتهم إلى المستقبل.
في هذا اللقاء ركز كثير منهم على تأثير الاحتمالات المقبلة المباشرة من العراق على الكويت، وأشار بعضهم إلى خريطة الطريق التي يمكن للكويت ان تتبعها في السنوات المقبلة.
بالتأكيد لن يكون الوضع الاقليمي المقبل مطابقا لما هو قائم الآن او حتى قريب منه، لذلك يجب ان تنشط العقول لقراءة الواقع واحتمالاته المتعددة ومن ثم تقديم الاجتهادات.
على ارض الكويت يتجمع اليوم عدد كبير من القوات الاميركية، وتحجز قطعة كبيرة من أراض كويتية لهذا التجمع العسكري الذي سيكون على بعضه القيام بعبء التقدم لتحرير العراق، وهو تحرير سيتطلب بالضرورة مجموعة من السياسات الاميركية اللاحقة للتطبيق في العراق، بعضها اطل علينا من خلال جملة من التصريحات الرسمية أو التسريبات الصحافية الاميركية، مفادها ان العراق يمكن ان يكون قاعدة (لاطلاق شرارة الديمقراطية) في المنطقة المحيطة. قد يكون ذلك تصورا يرى البعض صعوبة تحقيقه، وقد يكون مجرد آمال يمكن ان تتبخر، ولكنه احتمال وارد من جملة الاحتمالات القائمة.
والممارسة الديمقراطية في الكويت في المعنى المطلق ليست جديدة، كما ان مؤسساتها قائمة، ولكنها مثل أية مؤسسات إنسانية تحتاج إلى إعادة نظر وتقويم ومن ثم تطوير لتواجه على الاقل تغيرات الزمن ان لم يكن تغيرات الساحة المحيطة. فليس خافيا على احد من المراقبين للشأن العام أو الممارسين له، أن السنوات العشر الماضية كانت شبه عجاف في العمل السياسي الكويتي عجزت عن استيعاب المستجدات. وقال سمو الأمير الشيخ جابر الاحمد في نهاية الثمانينات ان التسعينات ستشهد نقلة نوعية وكان الرجل يطوف ببصيرته بعيدا للنظر في تطوير الكويت على قاعدة تأمين الديمقراطية من عيوبها وولوج العصر الزاحف بتحدياته، إلا ان الاحتلال العراقي عطل من تلك الخطط، وانشغل الجميع بالتحرير ومن ثم البناء، ولم يكن بناء سهلا وهيِّنا إذ صحبته عقبات وجاورته متاهات، فقد تعاقب تشكيل الوزارات في زمن متسارع، إلى درجة تصل إلى عدم الاستقرار، ما قطع الانفاس كما استنزف الرجال في طاحونة سياسية، أدت إلى خروج الكثيرين من العمل العام، سواء على الهيئات التنفيذية أو التشريعية، بكل ما يملكون من رؤى، وما يحملون من خبرات، وما يختزنون من آمال، وتوترت علاقات السلطتين السياسيتين في البلاد فأصبحت علاقة توجس مليئة بالازمات، معطلة للمصالح المرسلة. وسنرى فيما تعرضه حوادث الايام المقبلة، ان العشرية الماضية على رغم صعوبتها قد تكون الاقل في تحكم الازمات في مسارها من العشرية المقبلة، بعد التحولات الجوهرية التي ستصيب المنطقة، فالازمات الماضية كانت أزمات عدم يقين وتشتت للرؤية، اما الازمات المقبلة - ان سرنا السيرة نفسها - فستكون أزمات عدم ثقة، وهي بذلك أكثر الازمات تأثيرا على الوطن والمواطنين.
كان تشكيل الحكومات المتعاقبة في الكويت تشكيلا ائتلافيا إن صحت التسمية، أي ان هناك أكثر من اجتهاد وتيار داخل التشكيل يريد ان يسحب الوطن تجاه تفكيره، فأصبحت المصالح والامر كذلك معطلة لبعضها، متخاصمة في اجتهادها، قاعدة عن تقديم ما تريده وترغب فيه الغالبية الصامتة، كويت في المستقبل.
كانت اصوات الاحتلال واختناقاته ونتائجه تترك صداها في تنفيذ البرامج الموضوعة، كما اصبح الامر استرضاء لفئة، وتطويع فئة في الجسم التشريعي، وضاع البعض من المخلصين في ذلك الجسم المتخاصم في خضم بعض المنتفعين فيه على المستوى الشخصي من جهة أو الفئوي من جهة أخرى، ايا كانت الفئة، سواء كانت ايديولوجية او مصلحية ذاتية أو انتخابية.
هذه الاجواء لن تتناسب مع أجواء مقبلة في المنطقة، وقد تكون السنوات الاخيرة من القرن العشرين في الكويت مرحلة انتقالية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولكن الانتقال ينتهي إلى الافضل، وللوصول إليه لابد من خطوط عريضة لمرتئياته.
لا تستطيع حكومة ان تحكم في إطار برنامج ائتلافي، تلك حقيقة شبه مطلقة في العمل السياسي يتصرف كل وزير فيها على (خر أذنه) كما يقول المثل السائد، من دون شبكة من الاهداف الوطنية العامة التي يراد تحقيقها. والقاعدة الحقيقية لأية حكومة ديمقراطية هي انها تحتاج في تنفيذ برنامجها إلى ان يكون معلنا يصاحب مصالح الغالبية، ويرجح حكم القانون، ولابد له والامر كذلك من قاعدة لها غالبية نسبية في الهيئة التشريعية تقوم بتعضيد ذلك البرنامج الوطني من دون معوقات، تقدم إليه الدعم اللازم والمناصرة، ولعل ذلك يصاحبه طرح فكرة المنابر أو الاحزاب التي هي في الفضاء الكويتي السياسي اليوم (مكروهة) لا هي محللة ولا محرمة، كالرقص على السلالم لا يؤدي غرضا. فكل يعرف ويعترف ان هناك تكتلات سياسية في البلاد، ولكنها لا تظهر على السطح السياسي للمحاسبة والمراقبة، بحيث يحاسب الجمهور الفكر والممارسة وراء هذه التكتلات بدلا من محاسبة الافراد، فالافراد في ظل نظام الممارسة الحالي قليلو الحيلة، يمكن التأثير فيهم وعليهم، فاقدو البرامج العامة، وهي اقل الثغرات في الممارسة السياسية وأكبرها في تعطيل العمل الديمقراطي الحقيقي.
أمر المحاسبة والمراقبة الشعبية لا يمكن ان يتحقق في الترتيب القائم من حيث: أولا، عدد اعضاء الهيئة التشريعية، التي اصبحت قليلة بحساب عدد السكان بالنسبة إلى ما يراد لها ان تقوم به، وهو ليس ممكنا في الوضع الهلامي بين تكتلات في حال سيولة دائمة، كما لا يتهيأ في الظروف الجديدة والكويت من بين البلاد القليلة التي تسمح بانتخابات عامة، وتغيب نصف مجتمعها (المرأة) عن تلك الساحة، لذلك فإن الامر يحتاج إلى نقاش جدي بين أهلنا في الكويت بأن تطرح قضية تطعيم الدستور من جهة، وقضية المحاسبة الشعبية للتجمعات من جهة أخرى في الترشيح ووضع البرامج، توسيعا للقاعدة الانتخابية وترشيدا لها.
يذكر ان الاقتصاد له حيوية قصوى في المجتمع، التفاصيل كثيرة، إلا ان اللغط جار لمن يعرف مضامين الامور، ان هناك خلطا بين المال الخاص والمال العام، وربما سبقت مجتمعات كثيرة تحييد هذا الامر بطرح قانون لمعرفة اصول ممتلكات العضو قبل وبعد الخدمة التشريعية أو التنفيذية، من اجل ان يعرف الجمهور ما له وما عليه بدلا من ترك ذلك للاشاعات المريضة التي هي نقيض الشفافية.
وإذا استطردنا فنحن في السياسات العامة لهذا القطاع بين نقيضين حتى الآن إما (خصخصة) عشوائية وربما متوحشة، أو (اشتراكية) تتحمل الدولة كل سلبيات الممارسة فيها، وهي اشكال ايديولوجية ليست بالضرورة تتناسب مع وضع قائم على ما يقوم عليه الاقتصاد في الكويت، فإن تركت الامور إلى الخصخصة المتوحشة، بالتأكيد سيهمّش قطاع واسع من المجتمع الكويتي، الذي في افتقاده للتطبيق الصحيح للقانون سيجد نفسه امام هذا التوحش عرضة للأفكار المتطرفة، فحتى الفكرة الجميلة، بل وأقول الرائعة التي تبناها العقلاء في الكويت منذ اكثر من اربعة عقود (الجمعيات التعاونية) اهملت رقابتها حتى صارت ثقلا على المستهلك لا يجد بديلا عنها او منقذا منها، وذلك مثال تتبعه أمثلة.
لعل الامر الآخر في التصور المستقبلي هو الاعلام والتعليم، وهما قناتان مهمتان لمسايرة المقبل من تغيرات كبيرة، وهما في الكويت حجر الرحى في التغيير إلى الافضل، وكلاهما يحتاج إلى اعمال فكر، إذ اقتنعنا ان (الارهاب هو حال فكرية) كما يتضح من كل اشكال الارهاب. فهي حال يساعد في في خلقها أو تفتتها الاعلام والتربية، فقد اصبح الاعلام المقيد قيدا على اصحابه، في الوقت الذي تنتشر فيه وسائل الاعلام السمعية والبصرية والمقروءة بشكل لم يسبق له مثيل في عالم اليوم والغد ينبئ بأكثر، وما أقيم عليه إعلامنا وتعليمنا إلى اليوم يبدو انه قاصر في مسايرة النقلة المرتقبة.
تلك هي اعمدة النور في الاجندة المقبلة، طرحها اليوم لم يعد ترفا، ومناقشتها الوطنية والعلنية لم تعد فرض كفاية
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 165 - الإثنين 17 فبراير 2003م الموافق 15 ذي الحجة 1423هـ