هل سمعت وزارة الإعلام بما حدث في البلاد القديم؟ وماذا كانت آخر كلمات الضحية؟ وما الذي حصل له عندما وصلت به السيارة إلى دوار السلمانية قبل أن يغمض عينيه الإغماضة الأخيرة؟ وماذا جرى لأمه وأبيه العجوزين؟
عندما يدفن السر في قبرين
المنطقة مقبلة على الجحيم الأميركي المقبل، ولابد من متابعة آخر التطورات، تنام على نشرة منتصف الليل، وتصحو على نشرة الصباح، لتكون في آخر صورة أخرجتها لك آلة الدعاية والقتال الأميركية. في ليلة المصيبة التي ألمت بالبلاد القديم -مساء الخميس الماضي - كنت أتنقل بين الفضائيات جريا وراء الأخبار الجديدة، فإذا بها تصدمني لقطات من فيلم تبثه المحطة الجديدة في البحرينmbc2، لا أبشع منه ولا أرعب، وهو ما انتزع مني الاهتمام فتوقفت لدقائق لمشاهدة بعضها مع أني لم أكن من هواة هذه النوعية الرديئة من الأفلام التي تبعث غريزة الوحش في نفوس البشر. فأنت تشاهد شخصا يقوم بقتل مجموعة كبيرة من الأشخاص، بطرق مرعبة مخيفة، وباستخدام ما لا يخطر على البال من أدوات حادة، سكاكين وآلات مدببة وضغط على الرأس بحيث تخرج العيون من محاجرها. وكنت أتساءل في نفسي: ما الهدف من هذه النوعية من الأفلام؟ ما الذي تريد أن تقوله؟ وما تأثيرها على المشاهدين؟ وكانت فئة الصغار هي التي ترد على خاطري، بصفتها أسهل الفئات تأثرا بالعروض على الشاشة، ولم يخطر ببالي أن ستحدث مصيبة تهز المنطقة وتروع سكانها بعد أقل من اثنتي عشرة ساعة من بث الفيلم المشئوم. ففي ظهيرة اليوم التالي، صدمنا بالحادث الجلل، شاب يقتل جاره طعنا بالسكين، بلا مبرر ظاهر، أحدهما ذهب إلى القبر بسره، والآخر أودع الطب النفسي، يعلم الله وحده ما سيكون مصيره، ولكن السؤال يحوم: من المسئول؟
حدث قبل عشرين عاما
كيف كنا في هذا الخليج الدافئ قبل عشرين عاما، وكيف أصبحنا؟ لا أريد أن أتكلم عن السياسة، وإنما عن المجتمع وما يحدث فيه، أو عن جانب يبدو صغيرا، ولكن له دور عظيم بما نشهده من تقلبات وعواصف، القادم منها أكبر وأشد هولا إن بقينا نائمين. ففي مطلع الثمانينات ربما يذكر الكثيرون مسلسلا كويتيا عن «تيمور لنك»، يحمل الممثل في مقدمته سكينا يلوح بها ويردد بلهجة خليجية: «آنه تيمور لنك! وبعد بث ثلاث أو أربع حلقات منه، تصاعدت الاحتجاجات في الصحافة الكويتية على عرضه، بعد حدوث عدد من الحركات التي عكست تأثر الصغار باللقطة، كحمل أحدهم سكينا لأخيه وهو يقول: «آنه تيمور لنك»، فما كان من وزارة الإعلام الكويتية إلا أن أوقفت عرض المسلسل. لكن في البحرين، وفي الفترة نفسها، أصر تلفزيوننا الموقر على الاستمرار في بثه حتى الحلقة الأخيرة لـ «إمتاع» مشاهديه الكرام بـ «طرائف» و«نوادر» تيمور الأعرج! على ان أغرب ما سمعته في حياتي كلها من كلام هو ما صرحت به مديرة الإذاعة والتلفزيون ذات يوم قبل حوالي 18 عاما: (لم يثبت أن لأفلام الرعب دورا على الصغار)... لا أدري أكانت تخدع نفسها أم تخدع شعب البحرين؟
من المسئول عن بث هذه الأفلام القاتلة؟
مساء الخميس الساعة الحادية عشرة والنصف بثت القناة الجديدة الفيلم المرعب الذي سبقت الاشارة إليه، وعاشت المنطقة التي شهدت المصيبة حالا من الحزن المطبق يوم الجمعة الحزينة لأنها فقدت اثنين من أبنائها في لمحة عين. عندما عدت ذلك المساء وأثناء تنقلي بين الفضائيات بحثا عن اخبار الأميركان، شاهدت بالصدفة لقطات من فيلم رعب آخر في تلفزيون الكويت، يقوم فيه أجير كولومبي بقتل مجموعة من الأشخاص برمي سكاكين صغيرة حادة، حتى يلقى حتفه بعد مواجهة عنيفة بينه وبين مجموعة من المسلحين بالبنادق والمسدسات.
وفي الليلة الثالثة وفي التوقيت نفسه تقريبا شاهدت لقطات عنيفة أخرى من فيلم أجنبي آخر على الـ mbc «الأم»، كلها إطلاق نار وقتل وتفجيرات وحرائق! إذن: هل نحن أمام مد جارف من الأفلام التي تعلم فنون القتل؟ ألا يدفع ذلك إلى الصراخ: ما الهدف من بث هذه الأفلام «القاتلة»؟ ما الذي سيتعلمه الكبار والصغار منها؟ ما الفائدة أصلا من بثها؟ أم اننا مكب نفايات لكل ما تنتجه هوليوود من دون تمحيص أو تنقيح أو حتى مجرد تأمل.
أنت عندما تهم بشراء علبة فاصوليا أو جبنة موزاريللا من «السوبرماركت» أو فطيرة جاهزة من المخبز، لابد أن تدقق في محتوياتها وتاريخ صلاحيتها، ولكننا مع هذه السياسة الإعلامية الضائعة المنفلتة، نجد المؤتمنين على أخطر مرفق إعلامي حديث - التلفزيون - لا يهتمون بما يعرضون... وأخشى أن يكون الهم الأكبر الذي يشغل رأس الرقابة هو ما يكتبه الصحافيون من كلمات «قد» تشم منها رائحة عدم الاتفاق مع الخط الرسمي أو الخروج على الخط المرسوم!
هل تكفي الأدلة من الأردن وأميركا!
من الجدليات السائدة المطروحة في الساحة هل هذه الأفلام تؤثر ام لا تؤثر، وهي جلية، تذكرنا بمن جاء أولا: البيضة أم الدجاجة، ولكن ينسى الجميع ان ذلك ليس هو القضية، وسواء جاء الديك ام الدجاجة أولا أم سبقتهما البيضة، فستبقى النتيجة واحدة.
وإذا كنا نفتقر إلى الدراسات الاجتماعية عن هذه الظواهر، فإن الدلائل التي يمكن الاستشهاد بها من «الخارج» غير قليلة. لعلكم تذكرون قصة الشاب الأردني الذي قتل والديه وستة آخرين من عائلته وأصدقائه، وخبأهم في المنزل، واكتشف فيما بعد انه طبق ما رآه في فيلم أجنبي شاهده حديثا.
وفي أميركا، التي يعشقها البعض ويستشهد بأية كلمة تصدر عنها ويسارع إلى بث أية أفلام تنتجها من دون تفكير أصلا، وهي المصدر الأكبر لهذا النوع «القاتل» من الأفلام، لاشك أنكم تقرأون بين الحين والآخر أخبار قتل التلاميذ زملاءهم باستخدام الرصاص، وهو ما لا يحتاج إلى إكثار كلام.
على أن من البديهي انك «تملي» على المشاهد ما ينبغي عليه أن يفعل عند الغضب بعرضك هذه الأفلام القذرة، والتي لا تقتصر آثارها على صغير أو كبير، أو سوي أو مريض نفسي، فالكاميرا تنقل إلى الجميع تفاصيل خطط القتل وصور العنف والإيذاء الجسدي، ليتم تخزينها في اللاشعور، وسيحين وقت استخدامها لاحقا. عندما يغضب السوي ويفلت زمام عقله سيلجأ إلى الخطة المخزنة ويستدعيها، أما غير السوي فسيجدها حاضرة كمثير أو محفز، عندما تنتابه حالة من حالات المرض. ثم نأتي ونستعرض عضلاتنا المعرفية بعرض إحصاءات الاغتصاب، ونثرثر على طريقة المثقفين «العاجيين» عن ازدياد حالات العنف العائلي والضرب والسرقة وضحايا المخدرات وتهريب السيارات عبر الحدود!
وإذا كنت في هذا المقام ألقي باللائمة الكبرى على الإعلام «التابع»، «المنفلت» و«غير المسئول»، فباعتبار ان له السطوة العليا في هذا العصر. فالأسرة تقلص دور تأثيرها على الأبناء بعد أن غرق الوالدان في الجري وراء توفير ماديات الأسرة. دورهما تقلص عما كان عليه قبل عشر أو عشرين سنة، وأبشركم بأنه سيتقلص أكثر مع توسع دور الخدامات الأجنبيات. لا تقولوا المدرسة، فعلينا الاعتراف بعجزها عن التنشئة الاجتماعية حقا. والمسجد الذي أراد الاتجاه «الهرأم» في صحافتنا إلى إلقاء التهمة عليه في حوادث المعارض ليس أحسن حالا، من حيث الحضور والتأثير في هذا الوسط المادي المحموم. والتلفزيون استفرد بالساحة، وإذا كان له من منافس فهو الانترنت، وذلك أدهى وأمر.
صرخة في البرية
يا وزير الإعلام، أيها الوزراء والمسئولون، يا أصحاب المناصب العليا في الدولة، أيها المثقفون انتبهوا. الحال الأخلاقي في البلد في وضع لا يحسد عليه. اننا امام حال تنذر بانهيار وتداعٍ. انتبهوا قبل أن تسيل دماء أخرى، بعد أن سالت دماء في سترة والمحرق والبلاد القديم وعسكر. ابحثوا عن الأسباب. أيها الاجتماعيون: وعّونا، نوّرونا، افتحوا أبصارنا على ما يجري، فأنتم أصحاب الاختصاص، لنكون في صورة ما يجري، ولنعرف أسباب الصدمات التي يتعرض لها هذا المجتمع الذي ما عاد آمنا مطمئنا كما كان... فعندما يذهب الجار ضحية طعنات جاره، بلا سبب واضح، وعندما يرفع الأطفال السكاكين في وجوه بعضهم بعضا، فلابد أن تقرع الأجراس. فلا أحد منا يريد أن يسمع عن دماء تسيل في أية قرية أو مدينة أخرى.
هل بالغت؟ هل ارتفع صوتي عن الحد المسموح به تحت تأثير الفجيعة؟ لكن... مستشفى السلمانية تلقى خلال الأسابيع الستة الماضية أربع حالات طعن بالسكين، كان أخطرها فاجعة البلاد القديم. وهي ظاهرة غريبة لم تكن مألوفة من قبل، ونرجو ألا تتفشى في هذا المجتمع، وإلا لن يتسع وقت وزير الصحة وأطقم طوارئه الطبية في إسعاف الضحايا المنكوبين.
وختاما: إذا لم تسمع وزارة الإعلام بما جرى في البلاد القديم، ولم تصلها آخر كلمات الضحية قبل أن يغمض عينيه الإغماضة الأخيرة، فلعلنا نوفق في إيصال ذلك إلى الجميع غدا أو بعد غد
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 165 - الإثنين 17 فبراير 2003م الموافق 15 ذي الحجة 1423هـ