العدد 165 - الإثنين 17 فبراير 2003م الموافق 15 ذي الحجة 1423هـ

إشارات كارلي فيورينا ونفسية العرب

قراءة مختلفة؟

كمبريدج - أحمد عبيدلي 

تحديث: 12 مايو 2017

في كلمة ألقتها المديرة التنفيذية لشركة هيولت بكرد المعروفة في مجال الحواسيب وبالذات في ابتكاراتها في عالم الطباعة، أشارت إلى صفات قيادية عربية برزت خلال عهد الدولة الإسلامية في العصور الوسطى استمرت قائمة في العالم قرونا من السنين.

وليس هذا بموضوع المقال بقدر محاولة قراءة مثل هذه الأقوال التي تلفت النظر، والتي أخذت طريقها إلى التداول الإلكتروني الواسع.

وعلى رغم أن الرسالة الإلكترونية تشير إلى أن تعليقات فيورينا قد قيلت حديثا، فإنها في الحقيقة قد وردت في كلمة ألقتها في مأنأسوتا في خطاب بعنوان: التكنولوجيا وعالم الأعمال، وأسلوب عيشنا: ماذا سيحدث لاحقا وذلك في 26/11/2001. ولربما كان للتوقيت أهمية كبيرة من حيث أنه أتى في أعقاب هجمات سـبتمبر/أيلول، وهو ما انعكس بشكل جلي في الكلمة. فيورينا خصصت كلمتها للتطرق إلى أساليب القيادة في عالم متوحد. ولقد أنهت كلمتها بالتعليق على أحد تجارب القيادة في العالم التي اعتبرتها ناجحة وجديرة بالتقليد: وهي التجربة الإسلامية.

بدأت فيورينا حديثها بشكل قصة: «كانت هناك حضارة شكلت الأعظم في العالم...»، من دون أن تسمي جهة وصفها وبعدها انتقلت إلى سرد منجزات تلك الحضارة بقراءة تنتمي إلى القرن الواحد والعشرين: «ففي مجال اتساعها استعادت المتحدثة كيف امتدت الحضارة الإسلامية عبر القارات ومن المحيط إلى المحيط ضامة مئات الملايين من الناس من مختلف المعتقدات والأعراق».

شكلت إحــدى لغاتها لسان اتصال عالمــي بين غالبية إرجاء المعمــورة حينئذ، وتشــكلت جيوشها من شــعوب من مختلف القوميــات ووفرت الحماية ليتحقق سلام ورخاء نسبيين لم يكونا موجــودين من قبل. وإذ تدخل فيورينــا الدولة العثمانية ضمن هذا العرض فإنهــا تشــير إلى أن تجــارة هذه الدولة امتدت من الصـين حتى أميركا اللاتينــية. وأضافت إلى أن الدافع الأســاسي المحرك لنشـاط قاطــنيها كان الاكتشـاف: إذ كان تطورها في مجال الطب والرياضيات أساسـا لتطورات علمية لاحقة في العالم.

وفي الأدب كان مؤلفو هذه الأمة يكتبون قصص الشجاعة والسحر والحكايات الشاعرية. ودون شعراؤها قصائد الحب في وقت كان فيه من سبقهم يرتعشون خوفا من التفكير في هذه الأمور.

وإذ كانت بقية الأمم تخاف من الفكر والأفكار كانت تلك المدنية تنتعش بالعيش وسطها، وإذ حاولت الرقابة على الفكر أن تمسح ذاكرة العــالم من المعرفة المراكمة عبر قرون التمدن البشري، حافظت تلك الحضارة عليها ونقلتها إلى بقية الأمم. وتستمر المتحدثة في مأنــأسوتا بسرد سمات حضارة تكاد أن تتطــابق والحضارة الأميركية الحالية في وصــفها الأكثر شعبية لتكتشف أنها إنما تتحــدث عن الحضارة الإسلامية. وبذلـك تنهي كلمتها.

يتوقف المرء عند توقيت الحديث وهو في ذروة ردة الفعل وخصوصا الأميركية وعموما الغربية على الإسلام والمسلمين. ويسجل نقطة إيجابية للمتحدثة. على أن الأمر يتطلب قراءة ثانية تلحق بالمقال الذي استعيد حديثا عبر الإنترنت.

فمن المهم ألا تثير الفقرات المستعادة الشعور العربي العميق بالتفوق الذي يسير متلازما مع الافتقاد للثقة بالنفس إزاء الآخر. ولا يعرف المرء إلى أي مدى يمكن أن تكون مناقشة كلمة ربما قيلت كحديث لما بعد العشاء أمرا ذي بال. فمما لا شك فيه أن الكثير مما ذكرته فيورينا لا ينتصب أمام أية محاولة جادة لتقويم بعض منجزات الحضارة الإسلامية على الرغم من إغراءاته.

ففي الإشارة إلى أمر الاكتشافات والاختراعات في العالم الإسلامي مثلا لابد من التساؤل إلى أي مدى كانت تلك الإبداعات تساير الحياة التجارية فعليا وتمكن من إقامة المنشآت المعمارية تقنيا. فمثل هذا العمل كان فعله محدودا في الحضارة الإسلامية، ولربما كان أيضا في الحضارة التي تعاصرت معها ولحقتها. وكان لابد للعالم أن ينتظر عصر النهضة وما تلاه من عقود ليأخذ هذا التلازم بين البحث العلمي المؤدي إلى الاختراع والتغير اللاحق في وسائل الإنتاج موقعه المناسب في المجتمع. قبل ذلك دخل ما اكتشفه المسلمون ضمن إطار إثبات التفوق العلمي الفردي ويقع تحت مظلة بعض ما سمي حينها بالحيل وتنفيذ بعض الأعمال الميكانيكية المبسطة.

ووسط ذلك كان يتم التكريم الاجتماعي للمبدع المخترع عبر الاهتمام الذي كان يبديه الخليفة (السلطان) الأمير بما يرفع إليه عن نبوغ بعض أفراد الرعية.

ولايغيب عن البال القدر الهائل من الإبداع الذي ضاع (ولا يزال يضيع في اعتقادي) في الكشف من جهد لا يتعلق بأمر الصناعة والتجارة بقدر تعلقه بمباحث لاهوتية. يجد القارئ العربي أحيانا راحة بال في التحدث عن القديم المنجز الذي ينتشر فيه القول إنه إن كانت هذه الانجازات قد تحققت في الماضي، فالأمر لا يتطلب إلا تغيير ما اختل من مسيرة التاريخ وإعادة الأمر إلى نصابه.

ولا حاجة للتســاؤل عن القديم ومقولاته الراســخة ولا العمل للحـاضر والمستقبل إذ المطلوب هو العودة إلى الماضي. يعرض هذا الماضي بشكل مبسط، مسطح ومبتسر خال من كل التفاصيـل، وفي كثير من الأحيان الســلبيات والهزائم والطرق المســدودة والمشـكلات التي لم تجد حلا.

على أن أفضل تلك العروض هو ما يأتي على لسان الأجنبي المتفوق وفي بعض الأحيان الذي ينتمي إلى حضارة العدو: الحضارة الغربية. فهي التي هزمت ولا تزال تهزم يوميا الواقع العربي والخطاب العربي.

الاستشهاد بما يقوله الخارج/الآخر له إيجابياته وملذاته. فهو وبشكل فائق يغني عن بذل الجهد لإثبات صحة أمر ما، ويزيح عن النفس مشقة البحث والتبصر في أمور تعد أساسيات ونواميس ثابتة. وخير الأمور هو ما شهد لك به الغير.

وهنا تأتي أهمية إشادات فيورينا. فهي ترد من جهة صناعية لها وزنها ألا وهي شركة هيولت بكرد بكل حضورها العلمي والصناعي. ثم أنها ليست غربية فقط بل أميركية: وليس أكثر مدعاة للبهجة والفرح. وهي تبرز وسط أزمة ليست فقط تحيط بالمنطقة الإسلامية وإنما أيضا تتغلغل داخلية ذلك العالم، وتدعو إلى التفكر في الكثير من الأسس الفكرية التي يقوم عليها ذلك المجتمع.

هذه بعض مظاهر عدم النضج التي تبرز في وسط حالات التفكير بين كتاب، وبالتالي قراء عديدين، وأحيانا تشكل المنهج السائد في التفكير.

إنه تفكير يراوح في بدايات التفكر في مرحلة ما بعد هزيمة/هزائم حضارية لا تزال تتوالى من مئات السنين. البقاء في تلك المرحلة أفضل وأسلم وأسهل من الانتقال الى مرحلة أخرى. مرحلة التساؤل والإبحار في المجهول واكتشاف أجوبة جديدة والإتيان بأسئلة مختلفة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً