العدد 165 - الإثنين 17 فبراير 2003م الموافق 15 ذي الحجة 1423هـ

الأنصاري وأزمة «الهوية والانتماءات»... رؤية أخرى

في موعد سابق من الشهر الماضي كانت لنا فرصة في منتدى «الوسط» الثقافي لتسليط الضوء على إحدى أهم القضايا الثقافية التي ترتبط بمجمل الحراك الاجتماعي والسياسي في البحرين وذلك ضمن عنوان «الهوية وأزمة الانتماء في البحرين». فموضوع «الهوية والانتماء» يظل محورا مهما يستحق الرجوع إليه كلما جرى تداول مسألة تخص السياق الاجتماعي أو ترتبط بتداعيات الشأن السياسي الذي يؤسسه البعض ـ اشتباها ـ بوصفه مرجعية التفكير بدلا من الثقافة والنظم القيمية. وفي حين كان من الطبيعي ألا نتوقع نتائج حاسمة، أو خروجات إجماعية من منتدى ثقافي لا يشتغل إلا بهاجس التحاور وإثارة التفكير في الأسئلة الكبرى، إلا أن رؤى أخرى تضع زوايا أخرى للنظر وتتجه ناحية مختلفة في مقاربة هذا الموضوع.

محمد جابر الأنصاري، واحد من الأسماء المهمة التي لا ينبغي تجاوزها حين يكون المقام مشغولا بمثل هذه الطروحات. وبوصفه باحثا ومفكرا في السوسيولوجيا السياسية يتحدث الأنصاري عميقا في موضوع «الهوية» وأزماتها في البحرين، ويسجل تحفظا أوليا على المصطلح إذ يعتقد أن «استخدام مصطلحات يفهمها كل فرد بطريقته أو لا يفهم منها شيئا محددا، أو يفهمها بشكل خاطئ، من الأمور التي لا تساعد على ايضاح القضايا موضع النقاش». من ذلك مصطلح (هوية) الذي اقترح إبعاده - ولو مؤقتا - عن دائرة البحث، لأنه يحتاج إلى دراسات معمقة في حد ذاته. وهو بهذا الإجراء (التفاوضي) لا يؤكد بلاهة مصطلح (الهوية) وضعف إشكاليته المتأزمة في الصراع الاجتماعي والسياسي، وإنما يومئ إلى أهمية أن يجري تناوله من خلال وعي آخر يستند إلى البحث العلمي وإمكانات الدراسة الموضوعية، ما يعني أن تناولا آخر لهذا المصطلح الإشكالي يمكنه أن يفضي إلى استخلاصات خطيرة، ربما يكون للصراع السياسي والتجاذبات الاجتماعية السلبية أثرها الأكبر فيه.

وإذا كانت القاعدة الاجتماعية في البحرين والموصوفة بالتعددية، هي المنتج الأساسي لظاهرة الانتماءات المتعددة فإن إحالة مهمة على مؤلفات الأنصاري لابد من التذكير بها هنا. فالأنصاري يؤكد «أن التعدد الإثني والطائفي في المجتمعات العربية والإسلامية (هو) موروث تاريخي قائم»، واجتهد الأنصاري في توضيح أبعاد وانعكاسات هذه الظاهرة في الكثير من مؤلفاته المهمة لاسيما «تكوين العرب السياسي» و«التأزم السياسي عند العرب» و«سوسيولوجيا الإسلام» و«العرب والسياسة... أين الخلل». وهي مؤلفات أساسية في مشروع الأنصاري الذي يرمي إلى تحليل الواقع العربي والإسلامي وتحديد أهم مكوناته المتأزمة والخلفيات الرئيسية لها. وهناك من الباحثين من وقف ناقدا لمعالجات الأنصاري المطروحة في مؤلفاته تلك، واعتبر أن هناك خللا في المنظور التاريخي الذي اعتمده الأنصاري في معالجة أزمات الواقع العربي والإسلامي، إلا أن الأنصاري يرى أن «البعض رأى خطأ أني أعود إلى التأريخ من أجل التأريخ» ويؤكد حقيقة «أن هذا التاريخ تاريخ مازال قائما في حياتنا وعلينا فهمه وتفكيكه للتخلص من أعبائه. فهذه إذن دراسة من صميم الحاضر والمستقبل. إن هذا الموروث التاريخي ليس من خيارنا وعلينا ألا نجعل أنفسنا ضحايا لآثاره، وبلدنا مسرحا لصراعاته، ونحن بحاجة إلى تحول تاريخي متدرج لتجاوزه بالتعليم والتنوير والتنمية وبالانفتاح الديمقراطي والمصالحة الوطنية والمعالجات السياسية الذكية. وهذا ما يتمثل في (مشروع الملك والشعب)»، هذا المشروع الذي يعده الأنصاري من موقعه بوصفه باحثا ومؤرخا بأنه «فرصة تاريخية لبداية جديدة في تاريخ البحرين»، ويشدد على المعنى التاريخي لذلك فيقول: «علينا أن نعرف كيف نتعامل مع هذا المشروع ونستفيد منه، وسيحكم علينا التاريخ - بمختلف أطيافنا الاجتماعية - إن كنا قادرين على ذلك».

وفي نقطة أخرى من صميم موضوع «الهوية» يقول الأنصاري: «أعتقد أن مناقشة التعدديات الإثنية والطائفية من زواياها النفسية والأيديولوجية أو الفقهية والكلامية مسألة غير مجدية على صعيد الحوار الوطني» وبدلا من ذلك يفضل الأنصاري «معالجتها من المنظور السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والعمل على حل ما يكتنفها من إشكالات، لأن هذا ما يجمعنا في عصرنا هذا من ناحية الواقع المعاش»، وفي السياق ذاته يضيف الأنصاري: «لنتأمل هذه الظاهرة، القبارصة الأتراك في قبرص يريدون العودة إلى التعايش والاتحاد مع القبارصة اليونان الذين لا يجمعهم معهم لا دين ولا لغة ولا ثقافة، لكنها وحدة الأرض والوطن، وحدة التراب الوطني الجامع... فكيف بمن يجمعهم الدين واللغة والثقافة؟». وينهي هذه الملاحظة بالإشارة التالية: في مجتمعات أوروبا يتعايش الكاثوليك والبروتستانت منذ عصور بسلام في إطار التعدديات الليبرالية القائمة، لكنهم مازالوا يتصارعون بحماقة في إيرلندا الشمالية! لماذا؟ هل هم مختلفون مذهبيا - فقط - هنالك ؟! كلا، وإنما هو إشكال سياسي قائم بين الطرفين ولم يتمكنوا من حله حتى الآن... إذا استطاعوا حله فالتعايش ممكن بين الطرفين كما يتعايشون في كل مكان».

وفي خلاصة مركزة يعود الأنصاري إلى القول: «التعدديات المذهبية والإثنية وغيرها بتوازناتها القائمة في مجتمعاتنا العربية، ومنها مجتمع البحرين، موروث تاريخي وعبء من أعباء الماضي، استطعنا في البحرين أن نقلل من آثاره السلبية تدريجيا بالتعليم والتنمية، وحققت المسيرة انعطافا نوعيا بمشروع التحديث والإصلاح الشامل الذي توافق عليه الملك والشعب في استفتاء تاريخي. علينا - إذن - الإمساك بهذا الخيط أو بهذه الحلقة من سلسلة التاريخ والانتقال منها تدريجا إلى ما هو أفضل، مرحلة بعد أخرى. هذا هو المنطق العلمي السليم للتطور، ولا توجد حلول عاجلة»





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً