في الوقت الذي تتجه الأنظار نحو «المناكفة الحادة» الجارية حاليا حول العراق، بين الولايات المتحدة الأميركية وممثلي «القارة القديمة»، أي فرنسا وألمانيا - بحسب تعبير وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد - التي اتسعت دائرتها حديثا بدخول روسيا والصين على الخط، بدأت أوراق أخرى، مستورة إلى حد الآن، تتكشف بشكل استثنائي مدروس، إذا لم يكن موجها. ففي أوروبا بشكل عام، وداخل فرنسا تحديدا، نلاحظ اليوم إبراز عامل النفط في اختبار القوة المستجد، هذا ما يسميه بعض المحللين المرموقين بـ «الوجه الآخر» أو السبب الفعلي لفراق حلفاء الأمس بغير الحسنى. وسمح، على ما يبدو، لبعض الدوائر المتخصصة، من سياسية واقتصادية، كذلك شريحة معينة من المفكرين، بالتعاطي بعمق مع هذا الموضوع الذي كان لأسابيع خلت من المحرمات بحجة أنه يمس بالمصالح الاستراتيجية للدولة، والاكتفاء بتبرير «المواجهة» السياسية مع أميركا من خلال الإشارة فقط إلى تصميم هذه الأخيرة على جر العالم لحرب يمكن تفاديها بالحكمة والتعقل والضغط، وإبعاد ويلاتها الانسانية عن منطقة هي في غنى عن حرب ثانية.
فلأول مرة وفي التوقيت نفسه، خرجت الدوائر العليا الفرنسية عن المألوف في تعاملها المرن حتى الآن مع واشنطن، متجاهلة كليا الحلفاء الأوروبيين الجدد لهذه الأخيرة، «من باب التحقير»، كما يؤكد ذلك أحد خبراء «كلية الاستخبارات الاقتصادية» التي أنشئت منذ سنوات. وكان بنتيجة هذه الخطوة التي وصفها قسم لا يستهان به من رأيها العام «الأكثر تنورا وتسيسا»، بالأجرأ لناحية التمسك بالمحافظة على المصالح الاستراتيجية الحيوية منذ عهد الجنرال ديغول الذي تحدى الولايات المتحدة ودعا إلى رفض هيمنتها وأجّل مرارا ولادة حلف شمال الأطلسي. فلم يسبق أن أظهر استطلاع للرأي في فرنسا منذ زمن بعيد تعاطف الشعب مع موقف الحكومة في مسألة خارجية كما حصل اليوم حيال العراق على رغم المحاولات الجاهدة التي بذلها اللوبي الصهيوني الفرنسي، المسيطر عمليا على الاعلام للتأثير في الرأي العام وخلط الاسلام بالارهاب وبن لادن والتهديدات التي يمكن أن تتعرض لها فرنسا في الأسابيع المقبلة. كما لم تؤدِ سلسة البرامج والأفلام المسيئة للعرب والاسلام التي عرضت في هذه الفترة إلى جعل الفرنسيين يغيِّرون من نظرتهم.
بل على العكس من ذلك، وضع هذا التجييش الهادف إلى دعم الموقف الأميركي، هذا اللوبي، في موقف حرج كونه طرح أسئلة تتعلق بالولاء للوطن وبالتبعية لواشنطن، وأبعاد وأسباب ذلك. وفي محاولة لشد المواطن الفرنسي أكثر نحو الموقف الرسمي المتخذ وإفهامه أهمية القرار بالنسبة إلى مصالحه والقاضية بالابتعاد عن المغامرة الأميركية غير المحسوبة النتائج التي تريد الإدارة الأميركية توريط الجميع فيها، شرعت الوسائل الاعلامية المتخصصة والمؤثرة في الرأي العام، بطلب من الدولة الفرنسية وبشكل حازم، شرح أهمية الاحتياطات النفطية للعراق التي تحتل المرتبة الثانية عالميا بـ 112 بليون برميل يمكن استغلال 35 بليون برميل من أصلها فورا. وضمن التوجه «التعبوي» نفسه للموقف الهادف إلى المحافظة على المصالح الاستراتيجية، سرّبت هذه الوسائل معلومات مفادها أن 40 شركة نفط عالمية، من بينها أميركية بواجهات كندية وغيرها، أجرت اتصالات مع السلطات في بغداد لاستغلال هذه الثروة.
بروز القواسم المشتركة
إذا كان الموقف الروسي الملفت للرئيس «فلاديمير بوتين» الذي صدر من باريس خلال زيارة هذا الأخير لها في عز عملية اختبار القوة الدائرة مع واشنطن، والمتطابق كليا مع الذي أعلنه مستضيفه، جاك شيراك، فاجأ الفرنسيين على اختلاف انتماءاتهم، فإن الدوائر المرتبطة بالحكم لم تتردد في تفسير خلفياته للمشاركين في صنع القرارات ولو من بعيد. ففي مداخلتين جرتا يوم الثلثاء 11 فبراير/شباط تحديدا خلال وجود بوتين في قصر الاليزيه - تعمد خبراء استراتيجيون فرنسيون وروس، الاشارة خلال اللقاء الذي تم مع نخبة من المحللين والباحثين الفرنسيين في أحد المعاهد التي تعنى بالجغرا - استراتيجيات في العالم، إلى أن الشركتين النفطيتين العملاقتين الفرنسية «توتال فينا إلف» والروسية «لوك أويل» - الذي ذكر حديثا بأن عقدها مع العراق ألغي - هما اللتان أحرزتا التقدم الأبرز في المفاوضات بالمقارنة مع الشركات الأربعين الأخرى المنافسة. كما أن لديهم «تفويضات» رسمية من الحكومة العراقية بالتنقيب داخل ساحات تشكل ربع مناطق الاحتياطات المحددة والموزعة على حقلي «مجنون» و«ابن عمر».
انطلاقا من هذا الواقع الذي تَكَشَّفَ والذي حرص الطرفان الفرنسي - والروسي، على إبقائه سابقا قيد الضمان سواء بالنفي أو التشكيك في صحة المعلومات المتداولة بشأنه طوال السنوات الأربع الأخيرة، يمكن تفسير التشدد في المواقف في كل مرة كانت تقترب فيها الولايات المتحدة الأميركية من إدانة العراق، عبر تقديم أدلة اعتبرها الحليفان «المستتران» غير مقنعة، كان آخرها علاقة بغداد بتنظيم «القاعدة»، أو انتزاع قرار من مجلس الأمن يخولها شن حرب. فالقناعة راسخة لا تتزعزع لدى «حليفي المصلحة المشتركة» والتي تتلخص في كون الهجوم على العراق لا يمكن إلا أن يعزز مصالح الشركات النفطية الأميركية على حساب شركاتهما. ولم يتردد الفرنسيون في دعم هذا التوجه عبر إعطاء أدلة ملموسة وبالأرقام، تؤكد أن الولايات المتحدة - خلافا لكل تسريبات مسئوليها ودوائرها المختصة بالطاقة - لا يمكنها الاستعاضة عن نفط الشرق الأوسط في المدى المتوسط، والذي تبلغ احتياطاته المؤكدة ما يقارب الـ 700 مليون برميل مقابل 310 ملايين برميل الموزعة على باقي مناطق العالم، أي أميركا الجنوبية (بما فيها المكسيك)، وأوروبا وروسيا، وأميركا نفسها (مع ألاسكا وخليج المكسيك)، والقارة الافريقية بما فيها دول المغرب العربي (من ضمنها مصر أيضا).
وفي معرض اقناع رأيها العام لجأت الأوساط الحاكمة في فرنسا إلى إظهار خطورة النوايا الفعلية لإصرار الشريكين الأميركي والبريطاني على الاسراع بشن حرب على العراق، بتقديم أدلة وردت في تقارير أعدتها الأجهزة المختصة بما يسمى بدائرة «الحرب الاقتصادية» التابعة لوزارة الدفاع، التي أنشئت بعد انهيار جدار برلين بسنتين. وتظهر بعض الوثائق أن النتائج التي نشرتها منذ خمسة عشر يوما كبريات الشركات النفطية الانغلو - ساكسونية في طليعتها بريتيش - بتروليوم (بي. بي) عن تراجع أرباحها بنسبة 25 في المئة للعام 2002، علما بأن هذه الأخيرة لاتزال تحقق ربحا يوميا من استثماراتها في العالم بمقدار 24 مليون دولار يوميا. ما يعتبره الفرنسيون تناقضا صريحا، تلعب على وتره الإدارة الأميركية للإسراع بالحرب لتغطية العجز الهائل في موازنتها من جهة، وإبعاد الانظار عن النتائج السلبية التي سيصادفها اقتصادها في الأشهر القليلة المقبلة. ويسحب هذا النقص في الأرباح نفسه على عملاق نفطي أميركي آخر «أكسون - موبيل» وخليفته البريطانية الهولندية «رويال دويتش شل». هذا في الوقت الذي سيصدر في الـ 20 من الشهر الجاري التقرير السنوي للفرنسية «توتال فينا إلف» الذي يظهر قدرة هذه الأخيرة على استيعاب الصدمات في الأسواق النفطية. في هذا السياق يذكر أحد محللي شركة الوساطة المالية العالمية «ليمان براذرز»، أن هذه الشركة حققت في العام 2002 أرباحا صافية بقيمة 6,49 بلايين يورو، محددة تراجع أرباحها بأقل من 13 في المئة بالمقارنة مع 2001.
وفي سياق التركيز على ضرورة التحالف مع روسيا في هذا المجال، نبهت أوساط فرنسية رفيعة المستوى إلى خطورة قرار «بريتيش بتروليوم» الأخير باستثمار 6,75 بلايين دولار في شراء 50 في المئة من رأس مال شركة «تي. إن. ك»، رابع مجموعة نفطية روسية، حتى ولو كانت هذه العملية تحمل في طياتها مخاطر بالخسارة. لكن هذا القرار، بحسب هذه الأوساط عينها، هو سياسي بالدرجة الأولى، يستهدف الالتفاف على الكرملين، الذي بدأ منذ فترة يعيد حساباته بخلفيات الاستثمارات الأميركية، لاسيما في مجال السيطرة على الاعلام والطاقة والمناجم والقطاع المعرفي والمالي. ودعت هذه الأوساط إلى ضرورة دعم «الحليف الروسي» في وجه الضغوط التي بدأ يتعرض لها عبر قطع الطريق على الشركات النفطية الأميركية التي تنوي السيطرة على قطاع الهيدروكربورات، الذي يعاني منذ سنوات من تراجع انتاجه نتيجة قلة الاستثمارات بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. فهذه العملية لا يمكن أن تتم سوى بدخول شركة «توتال فينا إلف» و«غازدوفرانس» السوق الروسية بقوة من خلال استثمارات مدروسة بالتنسيق مع القيادة في هذا البلد. بذلك، تحاول فرنسا مواجهة الهيمنة الانغلو - ساكسونية على انتاج النفط العالمي مستخدمة القواسم المشتركة مع جميع حلفائها. من هنا أيضا يمكن تفسير المحور الألماني - الفرنسي الذي أعطى ثماره بسرعة والذي تراهن عليه باريس في هذه المرحلة بالذات مع ترؤس برلين دورة مجلس الأمن الحالية.
إثبات وجود
أم تحسين شروط
استنادا إلى ما تقدم، هل يمكن اعتبار تكون ملامح لمحور فرنسي - ألماني - روسي بمثابة فرز بالعمق للتحالفات الدولية يشكل عائقا أمام نشوء أحادية قطبية؟ أم أن الأمر لا يتعدى كونه ضغوطا في الوقت الضائع لتحسين الشروط وزيادة الحصص بعد انهاء حرب العراق؟
على هذا التساؤل، يجيب أحد مستشاري وزير الخارجية الألمانية «فيشر» بالقول إن الإدارة الأميركية الحالية لم «تترك للصلح وللمصالح المتبادلة مكانا». لكن هذا لا يعني بأننا وفرنسا وحتى روسيا سنكون قادرين على منع حرب قد تشنها الولايات المتحدة في أية لحظة. لكننا، على أية حال، نجزم هذه المرة بأن نتائجها غير واضحة، وانزلاق أميركا في هذا الفخ غير مستبعد، في حين أن مصالحها النفطية لن تكون مضمونة كما يؤكد صقور البيت الأبيض. بالنسبة إلى الفرنسيين، فإن الموقف هو مبدئي سواء لناحية القرار الخاطئ بشن حرب على العراق، أو لناحية حماية المصالح الاستراتيجية وفي طليعتها النفط في العراق. ويرى الفرنسيون أن الموقفين لا يتناقضان البتة، وخصوصا أنه في هذه المرة، ليست هنالك حرب ضد الإرهاب العالمي، ولم تتعرض الولايات المتحدة لضربة كما حصل في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
ولا يخفي الفرنسيون قلقهم من نتائج لجوء واشنطن إلى وضع العراق تحت وصاية عسكرية أميركية في حال إنهاء الحرب بحسب مخططاتها. ما يعني أن مصالحنا وروسيا ستكون مهددة. لذلك، لن نسهل بأية حال مهمة الإدارة الأميركية التي لن تحترم، على ما يبدو، حقوق الآخرين في حال وضعت يدها على الاحتياطات النفطية للعراق. ففي حين بدأت شركاتها الرئيسية مثل «أكسون - موبيل» و«شيفرون - تكساكو» الموجودتان في الكويت، الاستعداد لعبور الحدود الممنوعة عليها حتى الآن للتنقيب، لا يسعنا وشركاؤنا، كذلك الحال بالنسبة إلى الروس، أن نقف مكتوفي الأيدي تاركين كل ما استثمرناه في السابق في منطقة الخليج. كما لا يبدو بأن الفرنسيين يثقون بوعود بعض أطراف الإدارة الأميركية باحترام شروط اللعبة بعد رفع الحصار عن العراق، وخصوصا في المجال النفطي. ويشير هؤلاء إلى أن الولايات المتحدة ليست على استعداد لنسيان بأن «توتال» تحدتها في العام 1997 عندما وقعت اتفاقا غازيا في إيران بالتشارك مع الروسية «غازبروم» والماليزية «بتروناس». فالمقولة المتعارف عليها في عالم النفط والتي تتلخص بـ «التقاسم الثنائي للسوق» لا تبدو هذه المرة صالحة للتطبيق. لذلك، فإن فرنسا وروسيا ستكونان مرغمتين على مواجهة الهيمنة الأميركية.
على أية حال، لا يمكن أن يبقى الوضع على ما هو لوقت طويل نسبيا، فأميركا دخلت مرحلة الركود الاقتصادي على رغم نفي مسئوليها هذا الواقع، في حين تستعد أوروبا لاتخاذ الاجراءات المناسبة للتخفيف من الصدمة من خلال إحياء ما يسمى بـ «ميثاق الاستقرار» منعا لانهيارات مالية وتململات اجتماعية حادة. لذلك، فاختبار القوة لابد أن يحسم سلبا أم إيجابا في الأيام القليلة المقبلة. ماذا وإلا تكرس مجددا مفهوم المحاور ونشوء الأقطاب المتعددة
العدد 164 - الأحد 16 فبراير 2003م الموافق 14 ذي الحجة 1423هـ