عشرات الملايين خرجوا في مدن العالم وشوارعها احتجاجا على حرب محتملة على العراق. المتظاهرون ضد الحرب، أية حرب، وليسوا مع هذا النظام أو ذاك. انهم ضد استخدام القوة العسكرية في معالجة القضايا السياسية. انهم مع الانسان ضد الآلة الحربية التي تريد القتل لتشغيل مصانع الأسلحة ودرّ الأرباح في خزائن وحسابات «الأشرار» في عالم ينظر إلى مستقبل مختلف لا تسيطر عليه مؤسسات خفية تدير حفنة من المسئولين في مواقع القرار في دول تتحكم باقتصادات العالم وثرواته. ما يحصل أكبر بكثير من مساحة العراق ونظامه. انه بداية عالم يتغير ويتجه نحو رؤية لا تنسجم كثيرا مع هيئات وممثليات تريد كبح التقدم الانساني ودفعه مجددا إلى سنوات ما قبل «الحرب الباردة».
أشرار الحزب الجمهوري الحاكم في البيت الأبيض يخططون لفرض حرب عن طريق اختراع أزمة لمصلحة مؤسسات تدير مصالح هيئات ضيقة تقبض على المال وتمنع توزيع الثروات على عالم يعاني ثلاثة أرباعه من الجوع والأمية والفقر والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. هؤلاء الأشرار لا يريدون للعالم أن يتغير في وقت بدأت نظرة الشعوب تختلف في قراءة «العولمة» وتقارب المصالح.
هذا لا يعني أن الحرب لن تقع. فالأشرار يسيطرون على القرار ويملكون القوة والسلاح. والملايين التي خرجت في مدن العالم وشوارعه على امتداد ثلاثة أيام (الجمعة والسبت والأحد) تملك الرؤية ولا تسيطر على القرار. هؤلاء الملايين خارج المؤسسات بينما تلك الحفنة من قوى الشر تتحايل على النصوص والنفوس وتخطط لتنظيم حرب تختبر فيها وخلالها قدرتها على كسر ارادات وتغيير خرائط ورسم مستقبل الشعوب عن طريق القوة.
إلا أن المسألة لم تعد سهلة كما كان يتصور «الأشرار». فاللعبة انكشفت أوراقها إلى درجة لم تعد من أسرار «البنتاغون» ولا دوائر المخابرات الأميركية. واستخدام 11 سبتمبر/أيلول ورقة لتغطية مؤامرات تخطط لها مصانع الأسلحة وشركات النفط انتهى إلى حد كبير مفعولها. فنيويورك تلك المدينة التي تلقت الضربة الأولى في 11 سبتمبر خرج في شوارعها أكثر من مئة ألف يحتجون على حرب تخطط لها إدارة واشنطن. فحتى المدينة التي جرت باسمها الحروب والمطاردات ضد ما يسمى بشبكات تنظيم «القاعدة» أشبعت ولم تعد على استعداد لقبول المزيد من المغامرات المجنونة باسم الانتقام لما حصل في مركز تجارتها.
هناك بداية نوع من الوعي المضاد تدعمه ممانعة دولية ليست بسيطة تبدأ من بكين وتنتهي في باريس وبرلين في وقت تقف الدول العربية مذعورة ومترددة لا تعرف أين تكمن مصلحتها وماذا تختار؟
ما حصل ويحصل منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2002 إلى فبراير/شباط 2003 ليس بسيطا في حسابات المستقبل والمصالح. وأية قراءة موضوعية للتحولات تكشف عن وجود «شيء ما» أخذ يتبلور عالميا. والمحاور الاقليمية - الدولية التي بدأت تتشكل تشير إلى وجود حواجز اعتراض قوية مدعومة بقوة الشارع وتحرك الناس في مدن لا تجمعها اللغة والهوية والعادات والتقاليد وحتى الثقافة. انها شعوب متفرقة جمعتها المصلحة في خط مشترك ليس دفاعا عن نظام العراق وانما لتحصين نفسها من قوة تريد السيطرة الكلية والهيمنة الشمولية على عالم متغير يريد المشاركة والتنوع والتعايش والتوزيع العادل للثروة.
حتى الآن لاتزال الإدارة الأميركية تعاند متحايلة على القوانين والنصوص حتى تفوز ولو بإشارة بسيطة تعطيها الحق الشرعي في خوض حربها لإعادة انتاج سياسات متطابقة مع طموحاتها ومصالح أشرار الحزب الجمهوري.
إلا أن الإدارة الأميركية باتت شبه معزولة عالميا وخسرت ذلك التعاطف الانساني الذي كسبته بعد ضربة 11 سبتمبر. فالإدارة مع مرور الوقت أساءت الفهم واستخدمت التعاطف بأسلوب قبلي ثأري لا يرى أمامه سوى الانتقام الوحشي ضد كل من يعترض الرؤية الأميركية وقراءة أشرار الحزب الجمهوري للعالم ومستقبل الشعوب. الآن اختلف الأمر. والإدارة الأميركية التي ترفض اعادة النظر في حساباتها تجد نفسها في موقع غير مريح. فالعالم غير متضامن وغير متفهم وغير مستعد للانجرار معها في حروب مخترعة ويمكن تجنبها عن طريق الحوار والدبلوماسية. هذا الضغط الدولي لم يثمر سياسيا حتى الآن... إلا أن مراقبة الكلام الذي قاله وزير الخارجية الأميركي كولن باول في جلسة 14 فبراير عن أن الحرب هي آخر الحلول يعطي فكرة عن «تشوش» وعي إدارة واشنطن.
والكلام الناري الذي أطلقه الرئيس جورج بوش في مظاهرة استعراض القوة العسكرية في احدى قواعد الولايات المتحدة تضمن فقرة تقول إنه يريد نزع أسلحة الدمار من العراق «بوسيلة أو بأخرى».
مفردة «بأخرى» هي إشارة مهمة إلى القول إن صيحات الملايين في العالم بدأت تعطي ثمارها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 164 - الأحد 16 فبراير 2003م الموافق 14 ذي الحجة 1423هـ