العدد 164 - الأحد 16 فبراير 2003م الموافق 14 ذي الحجة 1423هـ

نهاية الداعية وولادة المثقف!

دمشق - تركي علي الربيعو 

تحديث: 12 مايو 2017

بين نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، وبعد كل هذا التراكم النقدي للمثقف التقدمي ووظيفته، يجد المرء نفسه معنيا بالتساؤل: هل ستشهد نهاية وبداية القرن نهاية المثقف التقدمي، لنقل نهاية الداعية؟ وفي الحقيقة، فإن نهاية القرن لم تكتفِ بالتبشير بنهاية الداعية، المثقف التقدمي والبطركي بآن، حارس الايديولوجيا وشرطي الأفكار... إلخ من النعوت، بل حملت إلينا إعلان وفاته بعد أن أطلق عليه علي حرب رصاصة الرحمة كما صرّح في كتابه «أوهام النخبة، 1998» وبعد أن بشّر عبدالإله بلقريز بزوال زمانه «نهاية الداعية، 2000».

كان إعلان موت المثقف التقدمي العربي، الذي تزامن مع إعلان موت العروبة «حازم صاغية، وداع العروبة، 1999» أفصح عن ضرب من المحاكاة للنموذج الغربي الذي راح يشكك بجدوى المثقف في عصر الفيديولوجيا، عصر التلفزة وسيلان الصور المرئية اللامتناهية، فقد تساءل ريجيس دوبريه في كتابه الذي حرره مع السويسري جان زيغلر والمعنون بـ «كي لا نستلم»: ما جدوى أن يكون المرء مثقفا، ومن وجهة نظره أن لا جدوى في المثقف في عصر العبادة العالمية للمرئي، أي للتفلزيون الذي صلاته الوحيدة «انظروا إليّ أولا، والباقي لا أهمية له».

أعود للقول: إذا كان حارس الثقافة اللاتينية على حد تعبير فرانتز فانون فرض علينا هذه المحاكاة، فإن المحاكاة هذه التي تتجاهل واقع التخلف التاريخي ومحاولة استدراكه الذي يبرر فاعلية المثقف، سرعان ما تفقد صدقيتها وسعيها إلى اللحاق بقطار الغرب السريع. من هنا نفسر دعوة محمد أركون إلى إحداث قطيعة جذرية مع المفهوم الغربي للمثقف، وخصوصا المفهوم الفرنسي للمثقف الذي ظهر إلى الوجود مع ظهور قضية درايفوس (الضابط اليهودي المتهم بالخيانة). فالواقع العربي لا يتحاج إلى درايفوس جديد كما يدعو محمد الرميحي. والأمر يتطلب وضع حدٍ للسلفية المعاصرة التي تجد في الغرب نموذجا يحتذى به في كل شيء، والسعي إلى البحث عن المثقف المبدئي في تراثنا العربي الإسلامي بمحاكاة نموذجه وجعله مثالا.

تحت عنوان «المثقف والسلطة أمس واليوم» الذي يشكل واحدا من العنوانين الفرعية التي يضمها كتاب محمد عابد الجابري، وأقصد «المثقفون في الحضارة العربية،2000» يكتب الجابري ان علاقة المثقفين بالسلطة بالأمس (معتزلة وأهل سنة) أشبه ما تكون بعلاقة المثقفين بالسلطة اليوم (سلفيين أصوليين وعصريين حداثيين). أما جوهر هذه العلاقة فهي، الأمس واليوم، «التناوب» على خدمة سيطرة الدولة وهيمنتها». ومن وجهة نظر الجابري فإن هذا «التناوب» على خدمة السلطة ، قادنا وعلى مسار تاريخ طويل من محنة إلى محنة، فقد كانت تجربة المثقفين «المعتزلة»، والمثقفين «السنيين»، الحنابلة وغيرهم، مع الخلفاء العباسيين - تجربة المحنة ثم الانتقام لـ «المحنة» بممارسة محن أخرى - تجربة ممتدة عبر التاريخ العربي الإسلامي، ومازالت بعض فصولها ماثلة أمامنا اليوم.

إذن، نحن أمام تاريخ يعيد نفسه، وأمام حلقة مفرغة تدور من حولها نصب المحنة الملطخة بالدم. وما يقلق الجابري وكذلك أركون، أن التناوب على خدمة السلطة يسهم في مسخ المثقف وتحويله إلى مسخ ينشر الفزع والدمار في كل مكان. من هنا يأتي هذا الهجوم الحاد على ما يسميهم الجابري تارة بـ «المثقفون اللقطاء» وأخرى بـ «مثقفو المقابسات» الذين ينتشرون كفطر ذري سام في أروقة الدولة التسلطية، إذ تختفي المشروعات الثقافية والسياسية معا، وحيث ينحصر هم «مثقفو المقابسات» في إرضاء السلطان وكسب وده وتزيين مجلسه. والجابري يرى أن العلامة الفارقة لـ «مثقفو المقابسات» أنهم فئة من المستهلكين للثقافة الآخذين من هنا وهناك، «المتقابسين» الحريصين على المشاركة في كل علم والإدلاء فيه بدلو خلال المناقشات والمقابسات التي كانت تزخر بها «المجالس» الثقافية، سواء مجالس الأمراء والوزراء أو المجالس التي كان يعقدها هؤلاء «المثقفون» في بيوتهم أو في مكاتب الوراقين التي اشتغل فيها كثير منهم كنساخ لكسب قوتهم.

ما يطالب به الجابري وأركون هو كسر هذه الحلقة المفرغة، وإحداث قطيعة معرفية مع هذا النموذج وقطعا مع صنوفه كافة، مع المثقفين اللقطاء، ومع المثقفين البطاركة ومع مثقفي الدولة، إذ يشتكي غسان سلامة وعزيز العظمة من كثرة انتشارهم ومن كثرة تبريراتهم لسلوك الدولة التسلطية في المشرق العربي، لنسميها مع عبدالرحمن منيف بدولة شرق المتوسط، إذ الرعب والخوف والموت والسجن هو الوجه الآخر والحقيقي لها. وليس هذا فقط، بل الذهاب إلى أبعد من ذلك، من خلال البحث عن المثقف المبدئي في التاريخ (ابن حنبل وابن رشد) وهذا ما يفعله الجابري وأيضا أركون الذي يمنح المثقف المبدئي شحنة انفعالية تجعل منه شاهدا وشهيدا، وذلك في تعريفه للمثقف المبدئي كما جاء في كتابه الموسوم بـ «الفكر الإسلامي»، فمن وجهة نظره فإن المثقف هو ذلك الرجل الذي يتحلى بروح مستقلة، محبة للاستكشاف والتحري، وذات نزعة نقدية واحتجاجية تشتغل باسم حقوق الروح والفكر فقط.

من المؤكد أن الروح المستقلة للمثقف المبدئي، وكذلك نزعته النقدية والاحتجاجية تقطع مع الروح الانتهازية للمثقف اللقطي المستنسخ الذي يشتكي منه الكثيرون. من هنا فإن الهدف من البحث عن المثقف في حضارتنا العربية الإسلامية، هو البحث عن النموذج والمثال، لنقل عن المثقف المبدئي الذي يستطيع أن يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر، كما جاء في الحديث النبوي الشريف. والسؤال: هل ستشهد بداية القرن بداية المخاض الذي يمهد لولادة المثقف المبدئي، ذلك هو الرهان وذلك هو التحدي؟





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً