على النظام العراقي أن يختار بين دعوة رئيس تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن إلى الحرب معتمدا على نظريته عن «الخنادق المسقوفة»، وبين دعوة ألمانيا - فرنسا إلى تجنب الحرب وقبول اقتراح «القبعات الزرق» وتدويل المسألة العراقية.
الخيار الثالث هو أقرب إلى الأول ومضاد للثاني وهو دعوة الولايات المتحدة إلى اعلان حرب «الدمار الشامل» بقرار دولي أو من دونه ومؤداه محق دولة العراق وإزالة النظام من الوجود وربما إبادة قرابة ثلاثة أو أربعة ملايين انسان بذريعة سحب «أسلحة الدمار الشامل» واقامة نظام بديل تابع للسياسة الأميركية.
وجاءت دعوة «الخنادق المسقوفة» في شريط مسجل بصوت بن لادن أذاعته محطة «الجزيرة» بعد نصف ساعة من اعلان وزير الخارجية كولن باول عن حصول واشنطن (أجهزة المخابرات) على ذلك الشريط. وكان إعلان الوزير الأميركي هو الإشارة الأولى لوجود ذلك الشريط الأمر الذي أحرج «الجزيرة» وأخرجها من صمتها فاضطرت إلى إذاعته وجاء مختلفا بعض الشيء عن تلك الفقرات التي ادّعى باول بأنها مسجلة فيه في جلسة الاستماع أمام الكونغرس.
أسئلة كثيرة يمكن اثارتها عن التسجيل وتنظيم «القاعدة» وبن لادن وهي ليست مهمة لأنها تقع كلها في هامش «التخمينات» و«الافتراضات» و«الأقاويل». المهم في الموضوع أن التسجيل الصوتي يصب في المنحى الأميركي وهي الدعوة إلى الحرب. والحرب باتت حاجة نفسية - داخلية تريدها إدارة واشنطن مهما بلغت كلفتها ونتائجها. والحرب هي مطلب البيت الأبيض الذي علق كل مشكلاته ومصائبه وأحقاده على هدف واحد وهو استفزاز العراق وجر نظامه إلى معركة تقصم ظهره وتكسر دولته وتعيد تركيبها من جديد بصورة مختلفة عن صورتها الحالية. والشريط المسجل جاء ليخدم هذا الهدف من خلال تشجيع النظام وتوريطه في حرب يعرف القاصي والداني نتائجها منذ الآن. وصوت بن لادن الذي كفّر النظام دعاه إلى خوض معركة «الخنادق المسقوفة» في العراق على غرار ما حصل في جبال «تورا بورا» في أفغانستان. والكل يعلم ان طبيعة العراق وجغرافيته ومساحاته وهضباته منبسطة وصحراوية في المناطق التي يبسط النظام سيطرته عليها ومجموعها تقدم صورة مختلفة عن تلك الدعوة المسمومة التي تشبه العراق بمنطقة «تورا بورا».
هذا من جهة التضاريس الطبيعية أما من جهة التضاريس الاجتماعية - السياسية فالمسألة في العراق مختلفة عنها في أفغانستان. أفغانستان هي دولة من دون دولة وهي مجموعة قبائل متراصة اجتماعيا ومتفرقة تنظيميا وهي لا تملك ما تخاف عليه. في العراق المسألة مختلفة وهناك الكثير مما يستحق الدفاع عنه وحمايته من «الدمار الشامل» وتهديدات وزير الدفاع ورنالد رامسفيلد عن استعداده لاستخدام السلاح النووي إذا اقتضت الحاجة.
نظرية «الخنادق المسقوفة» هي كارثة سياسية عسكرية وهي دعوة إلى تطبيق فكرة قد تكون ناجحة في منطقة ولكنها ليست بالضرورة أن تنال النصيب نفسه من النجاح في العراق. وملجأ العامرية مثالا على ذلك.
هذا من جهة النظرية أما من جهة الممارسة يقول بن لادن اعتمادا على «صوته المسجل» إنه انتصر في معركة «تورا بورا» ومنع الولايات المتحدة من دخول «الميل المربع». هذا صحيح إلا انه لم يتحدث عن أفغانستان وهي مئات آلاف الأميال المربعة التي مسحت واشنطن مناطقها وحطمت قراها وغيرت معالمها الجغرافية والبشرية. هل يشجع بن لادن (إذا كانت دعوته صحيحة) النظام العراقي على الانهزام والتراجع والتقوقع في ميل واحد ويترك آلاف الأميال للجيوش الأميركية تسرح وتمرح فيها.
هناك فرصة أخرى أمام النظام العراقي إذا أعاد النظر في حساباته وقرأ التعارضات الدولية واختار الأفضل منها (كلها سيئة للعراق وسيادته) والأقل سلبية في الأمد المنظور وبدأ يراهن على تطويرها في أسرع وقت مع الدول العربية (الخائفة على نفسها) التي تنتظر دورها دولة بعد أخرى.
«القبعات الزرق» فكرة ألمانية - فرنسية سيئة لكنها أفضل من حرب «الدمار الشامل» ودعوة بن لادن إلى توريط نظام العراق في نظرية «الخنادق المسقوفة».
واشنطن تتمنى أن تجر بغداد إلى «تورا بورا» لتضرب مبدأ «الخنادق المسقوفة» بالقنابل. وربما هذه الأمنية تفسر سماحها لقناة «الجزيرة» ببث الشريط المسجل فهو يخدم الاستراتيجية الأميركية التي تحتاج إلى نوع من المغامرين الذين يصبون في طاحونة أهدافها.
الأمر الآخر سيئ إلا أنه أفضل من خيار «الدمار الشامل». فالقبعات الزرق (قوات دولية مشتركة) تحقق ما تريده واشنطن في سنوات (بدلا من أيام) وتحافظ على العراق دولة لها مكانتها المنقوصة في «الشرق الأوسط». والناقص أفضل من المعدوم لأنه يملك فرصة جديدة للتقدم والتكامل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 162 - الجمعة 14 فبراير 2003م الموافق 12 ذي الحجة 1423هـ