في الخارج، أصبح معروفا أن العرب غير قادرين على منع الحرب الأميركية الوشيكة ضد العراق لأسباب كثيرة، أهمها طبعا ضعف الموقف العربي من كل جوانبه...
نعم، نحن غير قادرين على معارضة قرار الحرب، وفي الوقت نفسه غير قادرين على تأييدها، ذلك أن المعارضة تستلزم قدرا واضحا من شجاعة الموقف، الأمر الذي يضع حكوماتنا رسميا في موقف العداء أو حتى الاختلاف مع السياسة الأميركية الهاجمة بشراسة، ويستجلب بالتالي العقاب الأميركي القاسي...
وتأييد الحرب ضد دولة عربية شقيقة، يضع الحكومات في موقف التناقض على الشعوب التي تحكمها، والتي تؤكد كل يوم بطرق مختلفة، معارضتها الشديدة لهذه الحرب تحت أي دعاوى أو ذرائع، وهذا تناقض يزعزع على المدى البعيد شرعية مثل هذه الحكومات، فضلا عن شعبيتها أصلا.
في الحالتين نحن في مأزق خارجي فرضته علينا القرارات السياسية الساخنة، التي تحركها واشنطن، فإذا به ينعكس ضدنا في الداخل، ليخلق أوضاعا محلية متوترة ويثير متاعبا ومصاعبا، لا يستطيع أحد التنبؤ بتداعياتها ونتائجها اليوم وغدا...
ومن باب المراجعات النقدية الضرورية، أن نعترف أن هذه المآزق الطاحنة المتتالية، ليست كلها من صنع أميركا والغرب، ولا هي نتاج التآمر الأجنبي وحده، ولكن جزءا رئيسيا منها جاء من صنع أيدينا نحن، سواء كان الدور الأجنبي موجودا أو غير موجود...
ودليلنا لإثبات ذلك، هو أن مأزقنا الراهن تجاه الأزمة العراقية على سبيل المثال، وعدم قدرتنا على تأييد الحرب حرجا، أو معارضتها علنا خوفا من العقاب الأميركي، هو نتاج ضعفنا الداخلي وقصورنا الذاتي، في بناء القدرات الوطنية وتقويم الاقتصاد على أسس سليمة، وبتشكيل النظام السياسي الحاكم بوعي ورشادة، واطلاق الحريات الأساسية وصوغ حقوق الانسان، وافشاء قيم العدل والحرية والمساواة والكرامة، وتأهيل المجتمع للدفاع الايجابي عن استقلال الوطن وكرامة قراره السياسي المستقل، بعيدا عن ضغوط المساعدات وشروط المعونات واجحاف الاتفاقات وتعسف المانحين.
باختصار موجع ان عدم قدرتنا الظاهرة على التأثير في حوادث هائلة تقع في أحضاننا فنفجرها تفجيرا، مثل الحرب الصهيونية لإبادة الشعب الفلسطيني المحاصر المعزول، ومثل الحرب الأميركية المنتظرة ضد العراق، هو ترجمة واقعية لهزال قدراتنا الذاتية، وتعبير صريح عن الضعف الذي ينهن داخلنا ليس الآن فقط، ولكن على مدى سنوات وعقود دخلت.
في الحال الفلسطيني سلمنا أميركا كل الأوراق والمفاتيح رهنا بعدالة ونزاهة سياسية وأخلاقية تصورها البعض منا، فإذا بأميركا تسلم كل الأوراق والمفاتيح فوق كل الأسلحة اللازمة لإسرائيل، رهنا بأريحيتها وديمقراطيتها وأمنها، وها نحن في النهاية أسرى القبضة الشارونية الحديدية!
وفي الحال العراقية سارت الأمور على منوال مشابه، فعلى رغم، أن هناك من شجع النظام العراقي سرا في العناد والاندفاع وصولا إلى دخول الأزمة بكل حماس، فإن الجميع في النهاية حين اقترب الحسم العسكري أخذ يبرئ ذمته، ويكدس جهوده في توجيه النصح للعراق بوقف العناد في وجه أميركا الهاجمة بقوة لن ترحم، وإذا الجميع يخاف دخول الحرب علنا، ويخاف في الوقت نفسه نتائج عدم دخولها، فالأخطر هو الآتي بعد ضرب العراق!!
ونثق أن كثيرين حتى من كبار المسئولين في بلادنا، أصبح يتساءل حائرا عن سر هذه الهشاشة في المواقف السياسية العربية، وأسباب تراجعها وضعفها وتهافت قدراتها وتهاوي مصادر شرعيتها، واستمرار بقائها على النحو الذي لم يعد يؤثر في حوادث مهمة سلبا أو إيجابا كما هو الحال التعيس على فلسطين والعراق ثم ما يستجد!
وليس قفزا على الواقع إن قلنا إن الأسباب واضحة والأسرار معلنة، فالسياسة الخارجية والتأثير في التطورات المحيطة وقدرة التعامل بايجابية مع الحوادث الاقليمية والدولية، ومدى احترام الآخرين لقرارك وسماعهم لرأيك وحرصهم على مصالحك، نابع في الأصل والأساس من واقعك الداخلي وسياستك تجاه مواطنيك...
نابع هو من طبيعة النظام السياسي القائم، ومن مدى احترام حريات الناس وحقوقهم، ومن قدرات التطور الاقتصادي والاجتماعي والتقدم العلمي التكنولوجي، ومن قوة واستقلالية القرار السياسي، وقدرته على مقاومة الضغوط الخارجية حتى لو جاءت من قوة عظمى، لا تعترف بالاستقلال الوطني للشعوب الصغيرة، إنما هي تريد التبعية والخضوع والانصياع، وفق مفردات الخطاب الأميركي السائد الآن!
ومن هذا التشابك والتداخل بين الداخل والخارج، والتأثر والتأثير المتبادل، الذي يعرفه كل مبتدئ في القراءة والكتابة، نقول إن العاصفة ستهب بخطورة مدمرة، لكن الأخطر هو ما ستتركه العاصفة حتى بعد أن تهدأ رياحها وغبارها ودمارها.
تغيير النظم السياسية الحاكمة في المنطقة، يمثل الخطوة التالية بعد الحرب على العراق وتصفية القضية الفلسطينية، وهي خطوة لا تخضع الآن للتخيل أو التنبؤ، لكنها سياسة علنية كشفت عنها أميركا للقاصي والداني، بعد أن اتهمت هذه النظم بالفساد والاستبداد، الذي ولّد الاحباط والفقر والإرهاب، الذي داهم الحرم الأميركي المقدس في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الشهير.
وتغيير النظم الحاكمة، وفق الرؤية الأميركية، مجرد اجراء فوقي، لكن الاجراء التحتي - وهو الأخطر والأهم - يكمن في «تعليم العرب قواعد الديمقراطية»، بتغيير العقول والتأثير في الضمائر، عن طريق تعديلات جذرية في مناهج التعليم والثقافة والإعلام وتدريس الدين، حتى لو أدى ذلك إلى إجراء جراحات جذرية في جسم المريض المحجوز في غرفة الانعاش!
ونحسب أننا الأوّلي أن نفعل ذلك بأيدينا وعقولنا ورؤانا، فمن منا القانع بواقعنا المقتنع بحالنا، ومن منا الذي يعادي الديمقراطية والتقدم والتعلم والتسامح والاستنارة، ومن منا الذي لا يحلم لأبنائه وأحفاده بالعيش في مجتمع مطهر من الفقر والفساد والاستبداد وضعف الإرادة وتبديد القدرة والثروة الوطنية.
وسواء وقعت الحرب المجنونة ضد العراق أو لم تقع، نجح شارون في إبادة الشعب الفلسطيني وتدمير كيانه أو لم ينجح، فإن الاصلاح الداخلي الشامل أصبح فرض عين الآن أكثر من أي وقت مضى، إذ تتزاحم الضغوط الخارجية، متزامنة مع الالحاح الداخلي طلبا لهذا الاصلاح، الذي لم يعد يقبل المهدئات والمسكنات المخدرة!
ولن نكون أول المجتهدين في هذا الاتجاه ولا آخرهم، لكننا ندعو اليوم كل القوى الوطنية المؤيدة والمعارضة الحاكمة والمحكومة، لكلمة سواء، نجتمع حولها نتناقش ونتحاور من دون شروط أو حدود، لا رغبا أو رهبا، ولكن سعيا لاجراء واصلاح شامل وفق برنامج عمل سياسي اجتماعي فكري محدد المعالم، حتى لو استلزم تنفيذه على مراحل متتابعة لكن بصدق واصرار....
ونقترح أن يشمل «البرنامج الوطني للاصلاح» الموضوعات الرئيسية الآتية:
- إعادة النظر في فلسفة الحكم، لإسقاط ما هو عالق من مظاهر القبلية والاحتكار والشمولية والانفراد بالقرار، سعيا لصيغ عصرية للحكم الرشيد...
- برنامج واضح للاصلاح الاقتصادي الاجتماعي القائم على التنمية الانسانية الشاملة، والحريص على العدالة الاجتماعية، تجنبا للآثار السلبية الخطيرة للانفتاح الاستهلاكي والثراء غير المشروع، ومحاربة للفقر والتهميش واحتكار ثروات الوطن في أيدي فئة أو طبقة أو جماعة ضئيلة على حساب الغالبية الساحقة.
- تحديث جذري لمناهج التعليم والتربية والبحث العلمي والتكنولوجي، فندخل به العصر الحديث، ينبع من تاريخنا وحاجتنا، بدلا من المناهج الحالية التي تقوم على الحفظ والتلقين وليس على بناء الفكر وصناعة البحث الحر، وبدلا من املاء مناهج مترجمة عن أصول مختلفة ومصادر أجنبية مغايرة...
- تحرير وسائل الإعلام والثقافة، التي تشكل الوعي وتصوغ الرأي العام وتوجهه، عن طريق اطلاق حرية الرأي والتعبير في مختلف المجالات ولكل القوى الوطنية...
- اطلاق حرية المجتمع المدني وجمعياته الأهلية وأعمالها التطوعية في كل الاتجاهات، باعتبارها أساس التقدم ومحور النشاط اليومي للبشر.
- اصلاح النظام السياسي والحزبي وتحريره من القيود التعسفية التي تعوق حرية تشكيل الأحزاب والمنظمات السياسية والنقابية، بحيث يتم تخليصها من الشيخوخة والترهل والجمود.
تحريك نصف المجتمع المقعد، فمثلا المرأة والعناية بدورها الايجابي الحقيقي في بناء المجتمع، وليس فقط بدورها التجميلي المظهري، فهي طاقة عظمى مازالت مهدرة في مجتمعاتنا...
وأخيرا... اجراء اصلاح دستوري، يعيد تنقيح التشريعات وتعديل القوانين المعيبة، التي لا تناسب العصر، عصر الديمقراطية وثورة العلوم والاعلام والتكنولوجيا فائقة القدرة، بهدف اطلاق قدرات الانسان «الفرد - والجماعة» وحرياته وحقوقه وواجباته في مجتمع حر شكلا ومضمونا.
أعرف أن كثيرين سيبادرون بالقول: وهل هذا وقته، دعنا أولا نواجه مخاطر الحرب الأميركية المقبلة، ثم بعدها نفكر في الاصلاح الداخلي، وأحسب أن هذه قولة حق يراد بها باطل.
فالحرب في العراق أو في فلسطين أو في أية دولة عربية أخرى، لم يعد قرارها في أيدينا في ظل العجز البادي، ولم يعد لنا فيها دور سوى «إبراء الذمة» الذي يحاول كل منا التخفي وراء ظهره، هذا أولا، أما ثانيا فإن المخطط الأميركي المعلن، يقوم على أساس احتلال العراق لسنوات تحت حكم عسكري أميركي مباشر، كما حدث لألمانيا واليابان بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وذلك حتى «يتم تأهيل العراق لإقامة حكم ديمقراطي» وفق المقاس الأميركي بالطبع، وتقديمه نموذجا لنا جميعا في هذه المنطقة!!
ومن تجربة تأهيل ألمانيا واليابان للحكم الديمقراطي، إلى تجربة الغزو الأميركي لجرينادا وإعادة تأهيلها لإقامة حكم ديمقراطي، يمضي السيناريو الأميركي في منطقتنا، فبعد العراق وفلسطين، يأتي من عليه الدور، والعدد المرشح لا يحصى، لا يستثني حتى دول الأمن الديمقراطي المحدود مهما كبرت أو صغرت، ومهما سال فيها من دم وتضخمت معها الآلام والأوجاع.
فإذا كان ذلك كذلك، فلماذا لا نستبق العاصفة الهوجاء بالاعداد والاستعداد الضروري لمواجهتها، فنعيد ترتيب البيت من الداخل، ونهيئ المسرح بأنفسنا وبأدواتنا، ونعد السيناريو «الوطني - القومي» ونصوغ النص ونكتب المقدمة والخاتمة بدموعنا الجرارة ودمائنا السيالة، بدلا من الغي والعناد الذي لا يولد إلا الكفر بكل الأشياء.
أعرف أخيرا، أن القول سهل والفعل صعب، لكن لماذا لا نجرب الصعب إن كان هو طريق النجاة، وليس طريق المستحيل!
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 161 - الخميس 13 فبراير 2003م الموافق 11 ذي الحجة 1423هـ