مع ارتفاع حمى الحديث عن الحرب الاميركية على العراق وقرب اكتمال الحشد العسكري لها، تتدفق السيناريوهات والتسريبات عن خطط الهجوم المتوقع واسلحته ومداخله ومدته. وكلها ترسم صورة قاتمة عن المآسي والدمار وحجم الضحايا واللاجئين وغير ذلك من المصائب والفظائع، الانسانية والمادية المحتملة للاجتياح المرتقب. بعض التقارير الدولية وصلت تقديراته إلى اكثر من مليون ضحية عراقية، عدا المشردين والخراب، نتيجة القصف الجوي وقتل المدنيين. في حال وقوعه.
لكن هذه اللوحة وأرقامها، مع كل فظاعاتها وسوادها، تبقى «هينة» - اذا جاز التعبير - أمام السيناريو الجديد الذي نزل إلى التداول في الايام الاخيرة، الذي يتحدث عن كارثة نووية وربما كيماوية، ليس مستبعدا ان تشهدها هذه الحرب المرتقبة، اذا ما اصرت الرعونة الاميركية على الضغط على الزناد.
والمقلق او بالاحرى المخيف في الامر، ان الحديث عن هذا الخيار المرعب ورد على لسان مصادر يفترض، بحكم موقعها وخبرتها وقربها من اجواء الازمة، ان تكون مطلعة على معلومات في هذا الخصوص، حملتها على اطلاق التحذيرات المبكرة، على اساس ان مثل هذا الاحتمال لا يبدو بعيدا عن حسابات اهل القرار في البنتاغون لاسيما وان اشارات مبطنة صدرت من هنا وهناك تدعو إلى الاعتقاد بأن هذا الاحتمال قائم بصرف النظر عن نسبته، على رغم اهواله وآثاره الكارثية لو دخل حيز التنفيذ، من طرف واحد او من الطرفين.
قبل ايام ذكرت احدى الصحف التركية ان واشنطن خزنت حوالي 20 رأسا نوويا في قاعدة انجرليك في شرق آسيا. الاسبوع الماضي نقلت صحيفة «نيزا فيسيمايا» الروسية عن خبراء عسكريين روس قولهم إن استخدام السلاح النووي أمر محتمل لتدميرالمنشاءات العراقية العسكرية المحصنة تحت الأرض. ويرى هؤلاء انه قد تلجأ القوات الاميركية إلى «القنابل الذرية التكتيكية» لأن الاسلحة التقليدية لن تكون كافية للانتصار على العراق، وبالتالي قد لا تجد واشنطن مفرا من قصف العراق بهذا السلاح لاجباره على الاستسلام، كما فعلت مع اليابان في العام 1945.
واوضحت واشنطن انها عازمة على استخدام كامل قوتها العسكرية، اذا ما نشبت الحرب يعني ان كل الأسلحة على الطاولة. وفي هذا السياق كان من الملفت ان يصدرتحذير من جانب وزارة الدفاع البريطانية، تدعو فيه إلى استبعاد السلاح النووي في الحرب الرامية إلى الاطاحة بنظام الرئيس العراقي صدام حسين.
وكان ذلك من ابرز الاشارات في هذا الصدد، لان بريطانيا مطلعة على تفاصيل الحملة العسكرية على العراق، بحكم شراكتها فيها. فالتحذير لم يرد في تقرير او خبر صحافي. بل عن جهة مسئولة وحليفة لادارة بوش في حربها. وبالتالي لابد ان تكون معلوماتها على درجة من اليقين، حملتها على اطلاق هذا الاستدراك العلني بهدف شطب «الخيار النووي» من الحسابات الاميركية، قبل الهجوم المرتقب، نظرا للمضاعفات والذيول المدمرة التي ينطوي عليها، وكأن الملاحظة البريطانية تندرج في اطار الردع المسبق لمثل هذا التوجه الاميركي المحتمل.
يعزز هذه المخاوف صدور تلميحات عن الجانب العراقي بدت وكأنها جاءت بمثابة تهديد معاكس غير مباشر، للرد باسلحة دمار على القوات الاميركية، لو هي لجأت إلى السلاح النووي في ضرب المواقع العسكرية او غيرها في بغداد. فللمرة الأولى تحدث الرئيس العراقي عن مواجهة مع القوات الغازية قد تكلف الاميركيين «مليون قتيل». فهل هو تعمد ذكر هذا الرقم - الذي لا تقوى على بلوغه إلا أسلحة الدمار - لايصال مثل هذه الرسالة؟
ويشار في هذا الصدد إلى معلومة تناقلتها بعض الاوساط في الآونة الاخيرة ومفادها ان العراق وقعت بيده صواريخ كيماوية اميركية جاهزة كانت مخزونة في المنطقة، اثناء غزوه للكويت، وان هذه الاسلحة بحوزته منذ ذلك الوقت وواشنطن تعرف ذلك لكنها غير قادرة على الافصاح عنه... وتضيف هذه الاوساط أن هذه الواقعة تقف وراء التردد والتأجيل الاميركيين، بشأن الحرب. كما تقف وراء تلويح البنتاغون باللجوء الى السلاح النووي وتسريب المعلومات وخلق الاجواء - ومنها التحذير البربطاني ربما - في هذا الخصوص باعتباره وسيلة ردع اثبت في رسالة مباشرة إلى بغداد كي لا تلجأ إلى استخدام هذه الصواريخ ضد القوات الاميركية او دول الجوار.
قد تكون هذه الرواية واحدة من الاشاعات الرائجة.
وقد تكون التلويحات والتحذيرات المتداولة كلها، جزء من حرب الاعصاب التي يلجأ اليها الطرفان.
لكن مع ذلك فإن مجرد التداول لمثل هذه الاحتمالات وفي جو مشحون بجميع عوامل التفجير لحرب كسر عظم بين الطرفين، ينطوي بحد ذاته على مجازفة خطيرة، ذلك ان الحديث عن الممنوعات، من زاوية انها صارت أو مرشحة لأن تصير من الاحتمالات الواردة يخرجها من اطارها كمحرمات ويخلق مناخا لاستعمالها اذا فلتت الامور من تحت السيطرة او اذا تعذر على القوات الغازية تحقيق ما تريده بالاسلحة التقليدية - بحسب الخبراء الروس - في معركة قررت واشنطن حسمها لمصلحتها مهما كلف الأمر وحتى لو كان التداول في هذا الموضوع، بالوقت الراهن، يدخل في الحرب النفسية التي تشنها واشنطن منذ فترة، الا ان الدخول إلى هذه الدائرة المفترض ان تكون محرمة ولو على سبيل التخويف، قد يؤدي إلى اعداد الاجواء سلفا لترجمة التهويل ، اذا لزم الامر عسكريا. في ضوء الاصرار الاميركي على كسب الجولة هذه المرة وبصورة قاطعة لا تقبل الجدل.
وثمة نقطة هنا لا بد من الاشارة إليها وهي ان ادارة الرئيس بوش ليست مستعجلة فقط على شن هذه الحرب بل هي ايضا «مستعجلة لغلق ملفها بأسرع ما يمكن، عندما تندلع نيرانها فبعد اشهر يكون قطار حملة انتخابات الرئاسة الاميركية غادر المحطة. ولا يقوى بوش على ان يدخل الموسم الانتخابي وحربه العراقية مازالت تجرجر وتراوح من دون حسم. لاسيما وان وعده بإلقاء القبض على قيادات «القاعدة» و«طالبان» لم يلق ترجمته بعد، فضلا عن ان حال الاقتصاد الاميركي ليست على ما يرام وقد تسوء زيادة، وبالتالي فان كل ذلك لابد وان يضغط عليه باتجاه حسم حربه مع بغداد في اقصى سرعة وباقل الخسائر مع تحقيق اهدافه. الامر الذي يصبح معه «الخيار النووي» ورقة راجحة كفتها. لاسيما وان جوقة الكواسر الساعية إلى الحروب في واشنطن والمصممة على فرض المشيئة الاميركية بالقوة على العالم، لا تتردد في توظيف اية وسيلة بيدها لبلوغ مآربها. وقد جاهرت بمثل هذه النية في ادبياتها واطروحاتها التي عملت على الترويج لها منذ رئاسة ريغان في اول الثمانينات. والآن هي في موقع القرار منذ سنتين، وخلال هذه الفترة القصيرة ترجمت الكثير من استراتيجيتها الكونية حتى قبل واقعة 11/9 وابرزها كان مشروع «حرب النجوم» - بصيغته الأرضية وليست الفضائية - موضع التنفيذ، كما حملت واشنطن على الانسحاب من عدد من الاتفاقات الدولية، فضلا عن الوقوف بوجه اتفاقات ومعاهدات جديدة من هذا النوع - مثلا اعتراضها على بروتوكول كيوتو البيئوي، معارضتها لاقامة محكمة الجنايات الدولية ورفضها لاتفاق تحريم زرع الالغام الارضية وغيرها - فالفكر المتحكم اليوم بصواغ القرار الاميركي لا يؤمن فقط بمبدأ القوة والتفوق الاميركيين بل ايضا لا يتردد في استخدام القدرات العسكرية المفرطة لغرض هيمنة الولايات المتحدة وتفردها بالقيادة والزعامة الدولية. بل لوضع يد اميركا كذلك على الموارد الطبيعية الحيوية لاقتصادها ولو كانت ملكا لغيرها. ففي قاموسها ان مادة استراتيجية مثل النفط لا تعتبر حكرا لصالحبها بل من حق واشنطن الوصول إليها والاستفادة منها، على حد تعبير نائب وزير الدفاع الاميركي، وأحد مهندسي «النظام العالمي الجديد» بول وولفوتيز الذي اعد ورقة في العام 1992 «للتخطيط الدفاعي». في تلك الوثيقة يقول وولفوتيز انه يتوجب في هذا النظام «الحفاظ على القوة الاميركية احادية الجانب. ان هذه القوة، في شكل امبراطورية تتطلب من الولايات المتحدة ان تظهر روح الزعامة اللازمة لتأسيس وحماية نظام يقنع منافسينا المحتملين بأنه لا داعي ولا لزوم لأن يسعوا إلى معاداة اميركا حتى ولو كان ذلك في سبيل حماية حقوقهم ومصالحهم المشروعة».
ان من يحمل مثل هذه المقاربة المتغطرسة والقهرية في العلاقات الدولية، التي لا ترى الا مصالح اميركا وتمايزها وتجاهر بوجوب خضوع مصالح الآخرين وحقوقهم لمشيئة الولايات المتحدة، لن يتردد في تسخير كل ما ملكت يداه - ومنها السلاح النووي - لفرض نظامه ورؤيته المتعسفة والخطيرة ان اصحاب هذا الفكر يملكون الآن القرار والتفوق والتفرد. وما يساعدهم في شق طريقهم نحو ما ينشدون هو عزوف - ولي عجز - الآخرين المعنيين عن التصدي لاستباحاتهم.
واذا كان من الصحيح ان اميركا لا تجارى بقوتها ولا يستقيم الوقوف بوجهها بالصورة العسكرية التقليدية. فالصحيح أيضا ان المطلوب ليس مواجهتها بسلاحها وفي ساحتها. المطلوب فقط- وذلك ميسور - حملها على الادراك واليقين بأن استباحتها الجائرة ستكون مكلفة، في مجالات كثيرة متوافرة. على الاقل للتخفيف من اندفاعها الحربي وقبل ان تتحول منطقتنا إلى «هيروشيما ثانية»
العدد 160 - الأربعاء 12 فبراير 2003م الموافق 10 ذي الحجة 1423هـ