ذهبت حديثا إلى دبي، قرأت سواحلها وطبيعتها فخلتها البحرين يوم أن كانت - قبل 20 عاما - واحة جميلة يزهر قلبها بجمال الطبيعة، وبعطاء نخيلها وبكرم بحرها، فتعجبت لدبي، تلك المدينة المتصحرة كيف تحولت إلى شاطئ جميل؟ وإلى شوارع مزدانة بالنخيل؟ وإلى حدائق غناء تنضح خضرة وزهورا؟
وشدني فيما شدني تلك الحدائق الوادعة التي يسكنها الجمال وتقبع بين أفنانها عبقرية الإنسان، حينما يجمع الجمال بالمعرفة، ففي حديقة «الخور» والتي تحولت بفضل الله والمال وعبقرية الوزير الإماراتي إلى قطعة خضراء اسبانية تبتسم على طرفها زهور تخالها هولندية وعلى الطرف الآخر حديقة علمية عبارة عن مركز كبير طفولي يعلم الطفل - إضافة إلى جمال الطبيعة، إذ البحر والزهور والأشجار - ألعابا الكترونية علمية توّقد ذهن الطفل نحو علمية الطبيعة، وحول الحديقة يمتد بحر أزرق جميل وبين كل ذلك تستلقي قرية ثلجية اصطناعية تقرب المواطن إلى الجو الثلجي الأوروبي، هذا عدا عن تلك الشوارع الأنيقة التي تبتسم في وجه كل زائر والمزدانة بالأنوار والزينة.
فالمدينة - بالمقياس البيئي - قمة في الجمال والنظافة والترتيب. هنا يتساءل المرء أين هي وزارة البلديات والزراعة البحرينية ومسئولها عن كل ذلك؟ فالدولة لم تبخل عليهم بمال ولا صلاحيات، فلماذا نحن نسير على طرق مليئة بالتصريحات الصحافية الجديدة القديمة؟ وهناك في دول الخليج ينعمون بكل هذه البيئة الجميلة مع قلة تصريحات المسئولين لشئون البلديات والبيئية؟ لماذا هم يتكلمون قليلا ويفعلون، ونتكلم كثيرا ولا نفعل؟ المواطن البحريني لا يبحث عن طرق حريرية كالسجاد الفارسي ولكنه أيضا لا يريد أن يسير على طرق معبدة بأوراق صحافية مليئة بالتصريحات! وهنا نقول بكل صدق: لا نريد حدائق ولا نريد زراعة 20 ألف زهرة موسمية ولا أسبوعية لأننا سمعنا عن ذلك قبل 20 عاما وكان البحر يخفف آلامنا، أما اليوم فإنا نخاف أن نستيقظ ذات صباح، فلا نرى لا زهورا ولا بحرا. وليس ذلك تشاؤما بل هو واقع لأنه كما يقول الشاعر:
«في يدينا بقية من مياه - فاستريحوا كي لا تطير البقية».
مع الاعتذار للشاعر إبراهيم طوقان. لقد أصبح المجتمع يخاف من كثرة التصريحات. هل يعقل أن يبقى كل شارع البديع بقراه البائسة 70 عاما بلا حديقة وبلا ناد ولو وسطي الترفيه؟ نحن كفرنا بالحدائق وبالشارع النظيف، ولكن هل تريد لنا وزارة البلديات واللازراعة ان نكفر بالبحر أيضا بعمليات الدفن الارستقراطي الذي مازال يدفن البحر ويقتل البيئة؟
المجتمع لا يبحث عن زهور، فذلك أصبح في ضمن الوعود والأحلام القديمة، إنما يبحث عن أقل القليل أو حفظ البقية الباقية من البحر. عوائل مازالت مصروعة ومفجوعة وهي ترى توزيع البحر في مزاد التجارة العلنية وكيف تقتسم البحار ليصبح حتى البحر مقسما وموزعا وموهوبا!! آثار تاريخية مهددة، مثل قلعة البحرين المحاطة بالنفايات والأوساخ... أين هي الوزارة من الخطر الزاحف نحو هذه الآثار التاريخية؟ ومن محاولة تشويه معالمها من بعض الملاك؟ أين هي الوزارة من الأوساخ الملقاة بجانبها؟ أين هي الوزارة من عملية اغتيال البساتين ودفنها؟ كما حدث لبساتين بني جمرة؟ أراضٍ تباع وتشترى وزحف عقاري على كل مكان إلى أن وصل إلى البحر وهو المتنفس الوحيد - على رغم القاذورات الملقاة فيه كما هو حاصل لساحل البديع - ولم تنطق الوزارة بحرف واحد لأنها مشغولة بالتصريحات المستقبلية!! وزاراتنا هي وزارات علاقات عامة في معظمها اللهم إلا القليل.
في هذا العام عمّ الحزن وخيّم على أهالي المنطقة الغربية، وظهر هذا الوجع على محيا أهل دمستان عندما علموا ان هناك نية بإغلاق آخر منفذ للبحر من جهة منطقة المالكية، وهذا حقهم، فهل يعقل أن تحرم كل المنطقة الغربية من البحر ويغلق المنفذ الوحيد بحجة أنه ملك لشخص؟ لقد قالها أحد الصيادين بملء الفم: «إنا على يقين ان جلالة الملك هو الذي سيقف ضد أي محاولة تحرم الناس من بحرهم، فلذلك على وزير البلديات و«الزراعة» أن يضع ثقل الوزارة في هذه القضية في إعطاء ضمان لكل قرية على أي ساحل بألا تحرم منه، وهذا أقل القليل لأجل شعب ينام على هاجس غريب، وهو في الألفية الثالثة وفي القرن الواحد والعشرين ان يستيقظ ذات صباح على فجيعة اختطاف البحر أو بيعه أو تقسيمه. فهل يعقل ذلك؟
البحر - في الفقه الإسلامي - ملك عام ومشاع لا يمكن أن يباع على تاجر أو يمنح لرجل أعمال تماما كما هو الهواء، فهل تستطيع أي حكومة تضع عدادا على الأنوف لتحسب حجم استهلاك الهواء، فالهواء لا يؤمم وكذلك البحر والحدائق والأماكن العامة وغيرها... «فعين عذاري» مثلا لا يمكن ان تباع لتاجر لأنها ملك عام يجب على الدولة المحافظة عليها، وهذا الوجوب وجوب قانوني ووطني وأخلاقي وشرعي أيضا فكل المنظمات العالمية البيئية والصحية و... تتفق على أن الأماكن العامة هي ملك عام تقع تحت رحمة ذمة الدولة والمجتمع. لقد حرم المواطن من عيونه وبساتينه و80 في المئة من البحر، فهل سيحظى بالـ 10 في المئة الباقية. لذلك يقع النقد على وزارة البلديات والبيئة. أين أنتم من الحديقة المائية، حديقة عين عذاري، ساحة الدراز، وليست حديقة الدراز وغيرها. لقد كانت في يدكم حدائق ماتت، أحيوها بدلا من أن تزرعوا 50000 زهرة هنا و70000 تصريح زهري هناك!!! وللأسف، علمتنا الوزارة ألا يكون زرع الزهور إلا عند اقتراب انعقاد مؤتمرات.
إذا كانت البيئة محل اهتمامكم فأين أنتم من التلوث البيئي من المصانع التي ملأت المنطقة الوسطى من سترة وغيرها بأمراض السرطان كما قال نائب لجنة الرقابة المالية والإدارية سابقا نبيل كمال ماذا أعددتم لأية كارثة بيئية محتملة لا سمح الله لو وقعت؟ هل قمتم باحترازات وقائية؟ فالمناطق المتاخمة للمصانع البتروكيماوية هي أكثر عرضة للخطر لو حدث أي طارئ - ونحن مقبلون على حرب - هل هناك خطة طوارئ من الوزارات المعنية، هل ثقف الناس خصوصا القريبين من المصانع الحساسة بأية ثقافة طارئة؟وهل يمكن أن يثقف الناس من خلال 10 أيام - هذا إذا كانت هناك خطة تثقيف - والحرب على الأبواب؟ وعلى رغم كل ذلك سيتحمل المواطن أي طارئ.
وبقت الفكرة الشعبية القديمة ذاتها: إن الأرض يحفظها أهلها... فهناك مجمعات سكنية خلت من الأجانب، ورحلوا إلى بلدانهم مخافة وقوع الحرب، وخصوصا من جنسوا عشوائيا في حين بعض المواطنين عادوا من الخارج من مناطق أوروبية آمنة ليبقوا قريبا من تراب الوطن ويحملوا المملكة وأهلها، وتلك مفارقة كبرى بين شارد لا وطن له وبين عائد إلى الوطن!!!
ولو عدنا للحرج البحري المفتوح ذاته لقلنا: الكثير من الصيادين يبكون لذلك الدفن اللامسئول، الذي أثر على عمل الفرضة الخاصة بهم، رفعوا شكواهم، صرخوا بملء الفم ولم يسمع إلا ربع الصوت المرتفع؛ لأن البحر أصبح هو الآخر يباع بالقطعة.
حقيقة البيئة في خطر، بل هي في غرفة الانعاش منذ سنين ولا نعلم متى يفوق ضمير المسئول ليوقف هذه المهازل البيئية التي غفل عنها الكثيرون بمن فيهم بعض أبنائنا في المؤسسات البيئية المدافعة عن البيئة.
إن المشكلة الكبرى التي يعيشها بعض المتنفذين في وزاراتنا هي المزاجية الهرمونية الآخذة في الصعود والهبوط، فإن صعدت خفنا وان هبطت خفنا أكثر، والضحية في كل ذلك هو المجتمع. ويبقى السؤال الملح على وزارة الأشغال وعلى وزارة البلديات والبيئة: لماذا كلما مر وزير إلى منطقة أو بالأحرى فكر في الزيارة يبدأ التشجير والتنظيف وتلميع الشوارع، في حين تبقى مهملة لسنين طوال إذا ضمن عدم اقتراب أو سكن مسئول فيها؟ ألا يستحق المواطنون كل هذا الاعتناء إلا في حال مرور المسئول؟ ألا يتعارض ذلك مع المادة الدستورية الناصة بتساوي المواطنين؟ هل تعلمون ان هناك مواطنين يحلمون أن تصبح شوارعهم بجمال شوارع محمية العرين التي بتنا نحسد ساكنيها على شوارعها؟!
المشكلة ان الدولة تعطي الوزارة جملا من المال صباحا لخدمة الناس، فلا يأتي عليه الليل حتى يتحول إلى فأر، فأوكار الفساد تنخر في أكثر الوزارات، والدليل ما حدث من أزمة سرقة في وزارة الاشغال والإسكان وما حدث من سرقة لـ 17 مليون دينار في البنك البحريني السعودي. بالطبع، لا يسعنا إلا أن نقول: بالهناء والشفاء، ونقول لمن سطا على المال: كل سنة وأنت طيب، وخيره في غيره.
وقفة وزير الإسكان وقفة جريئة ولعله من القلائل، ولكنه بمواقفه الجريئة في بعض المواقف استطاع أن يحرج زملاءه من الوزراء. وختاما نقول: مشكلة الناس انها لا تستطيع أن تضحك بشفتين من البلاستيك لذلك لا يسعها إلا البكاء أمام أية فجيعة ولن تكون هناك فجيعة أكبر من إغلاق المنفذ الوحيد لبحر المنطقة الغربية من جهة منطقة المالكية. وعلى نواب المناطق الساحلية من بلدية أو برلمانية أن يبادروا بطرح هذه المشكلة في البرلمان وألا يتألموا من نقد الشارع، فبدلا من مناقشة أسماء الشوارع المطلة على البحار يقع في الأولوية الحفاظ على البحار، فالأرزاق في بداية قطعها وبدأ أهالي هذه السواحل يعزفون ألحان الموت، وعلى إيقاع هذا الجوع الكئيب تضورت بطون وشطبت ذاكرة وذاكرة، ولا يمكن أبدا للمواطن البحريني أن يهز رأسه إعجابا وهو يرى بحره يغلف بالفلل كما هو حاصل في المنطقة الوسطى، وكما حصل للمنطقة الشمالية وكما تم للمنطقة الغربية، المجتمع البحريني لاينتظر من وزارته ان تتحول إلى حاتم الطائي، فالناس لا تريد بحرا من العسل، بل هي تبحث عمّن يسمع صدرها المثقوب بالسعال والوجع اليومي الحزين لها ولبحرها الذي قد يستيقظ ذات صباح لتقول - إن هي سكتت -: لقد كان البحر هنا
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 160 - الأربعاء 12 فبراير 2003م الموافق 10 ذي الحجة 1423هـ