تعلقت آمال الكثيرين في مطلع الأزمة العراقية بمواقف روسيا والصين وفرنسا ومعارضتها للسياسة الأميركية ومشروع الحرب. وكان ذلك طبيعيا، فالدول الثلاث هي قوى عالمية رئيسية تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن وبحق النقض (الفيتو). ولكن ما ان تصاعدت الأزمة حتى فقد معظم العرب ومعسكر مناهضة الحرب الكثير من الاطمئنان للموقفين الروسي والصيني وبرزت فرنسا وألمانيا في اعتبارها القوى الأكثر جدية وتماسكا في وقوفها في وجه الهيمنة والابتزاز الأميركيين. لم تزل المواقف المعلنة في موسكو وبكين صريحة في معارضة الحرب على العراق، ولكن الواضح أن مواقف الروس والصينيين تستند إلى المواقف الفرنسية والألمانية أكثر مما هي مواقف مستقلة وثابتة، وأن روسيا تلعب ربما لعبة مزدوجة تسعى إلى الحفاظ على الحد الأدنى من التفاهم مع الولايات المتحدة والعمل في الوقت نفسه على حماية المصالح الروسية في العراق ومنطقة الشرق الأوسط. إن قررت واشنطن الذهاب إلى الحرب، فالأرجح أن الروس سيقبلون في النهاية بصفقة ما تضمن بعض المصالح في العراق وتعطيهم الحرية لاستخدام مستوى أعلى من العنف لسحق المقاومة الشيشانية، مقابل دعم الموقف الأميركي أو السكوت عنه على الأقل. الصين، من ناحية أخرى، أقامت سياستها الخارجية منذ أكثر من عقدين على أساس من دور نشط إقليميا ودور أقل اكتراثا دوليا في الشأن السياسي. الأولوية الصينية مازالت تتمحور على التنمية الاقتصادية وفتح الأسواق أمام الصادرات الصينية، وهو ما يتطلب علاقات غير متوترة مع الولايات المتحدة والمنظومة الغربية، وعلى أمن شرق وجنوب شرق آسيا.
ما فاجأ العالم، وليس العرب فقط، كان المحور الفرنسي ـ الألماني الذي تقوده فرنسا أساسا ويصطف خلفه عدد من الدول الأوروبية الأصغر، وتستظل به روسيا والصين كذلك. ولعب الفرنسيون دورا مهما، دورا بالغ الأهمية في الحقيقة، في تعديل مشروع قرار مجلس الأمن 1441، بحيث أصبح للمراقبين ولمجلس الأمن الحق في تقدير الموقف العراقي ومدى تعاونه واستعداده للتخلص من أسلحة الدمار الشامل وليس لدولة ما أو مجموعة دول خارج نطاق المؤسسة الدولية.
وعلى رغم الضغوط الأميركية الهائلة، وقيام بريطانيا بمناورة شق الصف الأوروبي وقيادة معسكر موال لواشنطن، مازالت فرنسا تقاوم التحركات الأميركية والمتسارعة نحو الحرب. تدرك فرنسا أن الأهداف الأميركية من الحرب تتجاوز هدف نزع أسلحة الدمار الشامل إلى إطاحة النظام العراقي واحتلال العراق والسيطرة على مقدراته، بل وتتجاوز العراق لتطول كل منطقة «الشرق الأوسط». وجاءت تصريحات وزير الخارجية الأميركي كولن باول أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس يوم الخميس الماضي (6 فبراير) لتؤكد هذا التوجه الذي تحول في خطاب باول إلى مشروع امبراطوري شامل وصريح للسيطرة على المنطقة وإعادة صياغتها من جديد. مثل هذا التصور لمستقبل المنطقة وللدور الأميركي فيها يعني بالضرورة انتقال الولايات المتحدة من موقع القوة الأكبر في العالم إلى القوة الأكبر المسيطرة على شئون العالم. وهذا بالتأكيد ما تخشاه فرنسا، وكل من يريد تعزيز الوحدة الأوروبية وبروز أوروبا في اعتبارها قطبا مستقلا في الساحة الدولية. ولكن ثمة خطرا كبيرا في المراهنة على فرنسا، خطر يتعلق بواقع العلاقات بين القوى العالمية وليس بالضرورة بنوايا فرنسا وطموحاتها.
خشية فرنسا من الهيمنة والسيطرة الأميركية على «الشرق الأوسط» والشأن العالمي هي خشية حقيقية. ورغبة فرنسا في كبح جماح الهجوم الأميركي وتعزيز الموقف الأوروبي المستقل عن واشنطن هي أيضا رغبة حقيقية. ولكن فرنسا لا تستطيع أن تقول لا مطلقة ونهائية لواشنطن، فمثل هذا الموقف يعني الذهاب إلى صراع طويل المدى مع السياسة الأميركية، صراع لا تريده باريس ولا تسعى إليه، بل إن توازنات القوى العالمية الراهنة لا تسمح به. ولذلك فقد تبلور الموقف الفرنسي من خلال تأييد المطالب الأميركية في نزع سلاح الدمار الشامل العراقي، والتوكيد على أن يتم هذا من خلال قرار دولي وفي إطار مجلس الأمن والأمم المتحدة. ويضيف الفرنسيون (وهذا ما عملوا على إبرازه في القرار 1441) أن المراقبين هم قضاة المحفل الدولي، أي هم من يقدر مدى الاستجابة العراقية، وليس واشنطن. إنْ جاءت تقارير المراقبين لتعكس موقفا عراقيا سلبيا، يصل إلى اعتبار العراق في وضع انتهاك مادي لقرار مجلس الأمن، فعندها يمكن للمجلس إصدار قرار جديد يشرع لاستخدام القوة. وهنا ـ في رأيي ـ تنبع مخاطر الموقف الفرنسي.
الرأي الغالب الآن أن الحرب الأميركية على العراق واقعة لا محالة، ليس فقط لأن واشنطن تريد الحرب أصلا، أو لأن نشر الجيوش وصل إلى مستوى يصعب بعده تصور حل دبلوماسي للأزمة، بل أيضا لأن التراجع الأميركي الآن يعني انهيارا فادحا في هيبة الولايات المتحدة ونفوذها في العالم. قد تشن الحرب من دون قرار صريح من مجلس الأمن، وهو ما سيجعل الحرب الأميركية حربا غير شرعية ويزيد من العزلة الأميركية ويعزز العداء في العالم والمنطقة العربية للولايات المتحدة وسياساتها. وقد تشن الحرب بقرار من مجلس الأمن يوفر لها غطاء الشرعية القانونية الدولية، ويوسع دائرة التحالف العالمي مع واشنطن، بل ومشاركة دول أخرى (إلى جانب بريطانيا) في الحرب ضد العراق. وعلى رغم بشاعة الحرب ومن استهدافها مصالح العرب جميعا وكرامتهم ووجودهم، فإن قرارا جديدا من مجلس الأمن قد يوفر غطاء لعودة بعض الأنظمة العربية المتورطة فعلا في المخططات الأميركية، أو تلك التي تجر خطاها بتثاقل نحو التورط.
قد أكون مخطئا، ولكن الهدف الأول لابد أن يكون منع الحرب من الوقوع، حتى في هذه المرحلة المتأخرة من الأزمة. منع الحرب، وتجنب احتمال احتلال أميركي للعراق، هو كسر حقيقي للإرادة الأميركية، وللهجوم الأميركي على العرب والمسلمين والعالم. ولكن من غير المستبعد أن تصل الأمور إلى مستوى تقول عنده باريس إنها باتت على قناعة من أن العراق لن يتخلص من سلاحه سلما وانه آن الأوان لمجلس الأمن أن يصدر قرارا يمهد لاستخدام القوة. إن من المقرر أن يقدم هانز بليكس تقريره الثاني إلى مجلس الأمن بعد أيام قليلة من نشر هذا المقال. وثمة أطراف عدة تعتبر أن هذا التقرير، وليس تقرير نهاية مارس/ آذار، سيكون الفاصل بين الحرب والسلم. إنْ عاد بليكس إلى مجلس الأمن بتقدير للموقف العراقي يشابه تقديره الأول، فإن احتمالات تغيير الموقف الفرنسي ستتزايد. ولأن فرنسا أصبحت بالفعل القوة القائدة لمعسكر مناهضة الحرب فإن تغيير الموقف الفرنسي سيؤدي إلى انهيار سريع في هذا المعسكر، على الأقل على مستوى الدول.
لا الصين ولا روسيا ستذهب أبعد من الموقف الفرنسي، وحتى ألمانيا، شريكة فرنسا الرئيسية، ستصبح أخفت صوتا في مناهضتها لمشروع الحرب الأميركية.
الاحتمال الأقل سوءا من الحرب، هو تبلور مشروع فرنسي جديد لإصدار قرار من مجلس الأمن يحكم السيطرة الدولية على العراق من دون أن يسمح بحرب واحتلال انجلو ـ أميركي منفرد، وهو ما يتردد الآن في التقارير الصحافية الأوروبية. إنْ نجحت فرنسا في تمرير مثل هذا المشروع في مجلس الأمن، وهو احتمال غير مضمون ولا مؤكد حتى الآن، فسيواجه العراق انتدابا دوليا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا على مقدراته يمتد إلى حقبة لا يعرف أحد نهايتها. وعلى رغم أن ذلك الانتداب لا يمكن مساواته باحتلال انجلو ـ أميركي عسكري مباشر، فإنه أيضا سيفتح نافذة للولايات المتحدة لإحداث انقلاب سياسي في العراق وتهديد لجواره.
يخلط معظم المراقبين لتطورات الأزمة العراقية بين قوة الموقف الفرنسي النظرية والقوة الفعلية لهذا الموقف. نظريا، دوافع الخشية الفرنسية من السيطرة الأميركية هي أعمق من دوافع أكثر الأنظمة العربية والإسلامية عداء لواشنطن. ولكن فرنسا لا تستطيع الوقوف في مجلس الأمن لإعلان معارضتها للسياسة الأميركية ومشروع العدوان على العراق على أساس من مخاوف نظرية، حتى وإن كان العالم كله يدرك أن هذه مخاوف حقيقية. ما تحتاج إليه فرنسا لتعزيز معارضتها لخيار الحرب وحصر التدافع الدولي في المجال الذي حدده القرار 1441، أي نزع أسلحة الدمار الشامل، هو تعاون عراقي ملموس مع لجان التفتيش الدولية. من دون هذا التعاون سيكشف الموقف الفرنسي للعواصف الأميركية الهوجاء ويجد مجلس الأمن نفسه، بما في ذلك فرنسا، عرضة للابتزاز الأميركي، ومجبرا، عاجلا أو آجلا، على إصدار قرار يوفر لمشروع السيطرة الأميركية الغطاء الدولي القانوني.
ربما ستقع الحرب على كل الأحوال، ولكن المهم ألا توفر لواشنطن فرصة شن الحرب باسم الشرعية الدولية. إن الولايات المتحدة تعد الخطى نحو حرب طويلة مع العرب والمسلمين. وبغض النظر عن النتائج الأولية للمعركة المقبلة، فإن واشنطن تدفع العرب والمسلمين إلى الجرار بحيث لم يعد أمام شعوب المنطقة إلا الدفاع عن وجودها وكرامتها.
وليس لديّ شك في أن العراق كله، بما في ذلك غالبية قوى المعارضة الحالية، سرعان ما سينقلب على قوى الاحتلال إن تطورت الأزمة إلى حرب واحتلال. في 1918، رحبت قطاعات واسعة من العراقيين بالقوات البريطانية، التي ادعت هي الأخرى، بأنها جاءت لتحرير العراقيين من الاستبداد التركي. بعد أقل من عامين، كان العراق يشهد ثورة واسعة النطاق ضد قوى الاحتلال، ثورة احتاج فيها سلاح الجو الملكي البريطاني إلى استخدام القنابل الكيماوية لإخماد بؤرة المقاومة العشائرية العراقية.
اليوم، إنْ كان لابد من الحرب فلتكن في عرف العالم حربا غير شرعية، حربا ليست ضد العراق فحسب بل ضد الإجماع الإنساني. عندها لن يستطيع طرف ما اتهام العراقيين، مهما كانت وسائل المقاومة التي سيستخدمونها ضد الغزاة، بما في ذلك تدمير حقول النفط في المنطقة كلها. وعندها ستجد قوى المقاومة في العراق والمنطقة الكثير من دول وشعوب العالم التي تمدّ يد المساعدة وتجد في التصدي العراقي والعربي ـ الإسلامي للعدوان الانجلو ـ أميركي دفاعا عن حقوق العراقيين والعرب وشعوب العالم
العدد 160 - الأربعاء 12 فبراير 2003م الموافق 10 ذي الحجة 1423هـ