مسرحيات هنري ميلر مرهقة في مضامينها بالنسبة إلى عدد كبير من متتبعي أعمال المسرحي الأميركي الكبير، مرهقة من جهة استقصائها وأحيانا تفكيكها لعدد من القضايا والظواهر والإشكالات النفسية والفلسفية والاجتماعية والوجودية... ثمة جرعات كبيرة من الإدراك يسعى ميلر إلى ايصالها والتنبيه إلى خطورتها من جهة وأهميتها من جهة أخرى، وفي المحصلة النهائية هناك ثقافة ادراك يكاد يكون ميلر رائدها بامتياز بين الكبار المعاصرين، ضمن قالب أدبي شائك في بنيته عدا عن الجانب الشائك في القضايا التي يتناولها ويثيرها.
تحيلنا ثقافة الإدراك إلى مسألتين غاية في الأهمية: الأولى: تتمثل في الدور الطليعي الذي يلعبه الكاتب والمفكر والأديب بالتحريض على قيم طارئة تعمل عملها في تآكل وانحسار قيم إنسانية ثابتة وضرورية يرتبك الوجود الإنساني ويدخل في ثورات من الفوضى في حال غيابها أو تراجعها، وهو تحريض لا يأخذ طابع أو سمة المنشور السياسي بقدر ما يلجأ وينزع إلى اختيار وتقديم حالات بعضها قائم ومعاش، وبعضها الآخر يتم اجتراحه أحيانا أو افتراضه احيانا أخرى، فيما المجتمع عبر دوراته المختلفة يوجده ويكرسه ويصبح حقيقة قائمة .
الثانية: تتمثل في بروز رد فعل هو نتيجة للفعل الذي تحويه الكلمة (ضمن حركية متمثلة... حركية تنتج عن إعادة ترتيب ربما قناعات) قد تكون متحركة، توجه نحو إحداث تغيير في حركة تراجع القيم الثابتة والضرورية.
وهنا لا يمكننا التفريق بين ثقافة إدراك تسعى إلى إعادة النصاب إلى القيم التي تراجعت، وثقافة إدراك تعمد إلى تأصيل القيم الطارئة بتقديم نماذج وحالات وظواهر هي الأخرى طارئة تعطى صفة الثابت والضروري وتُحدث رد فعل يجب ألا يستهان به ضمن قطاع لا يمكننا تجاهله أو غض الطرف عنه. وعدم تفريقنا هنا يتحدد في أنها بالدرجة الأولى تتبع الآليات والمداخل ذاتها، وتحدث النتيجة ذاتها وإن بشكل وصورة متناقضين، إلا انها في المحصلة النهائية ثقافة إدراك وإن بشكل مضاد.
ذات لقاء مطول مع مجلة «التايم» الأميركية أشار غابرييل غارسيا ماركيز (إلى أن تراجع الإدراك الإنساني في كثير من القضايا الملحّة، يعد سببا رئيسيا في تفاقم هيمنة قوى لا تملك سوى إدراكها بضرورة وجودها وهيمنتها على مجموعات معضلتها الوحيدة أنها لا تريد أن تدرك حقيقة ما يحاك ضدها لإرسالها ومن دون رجعة إلى حتف يؤصل لاستمرار تلك الهيمنة)
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 160 - الأربعاء 12 فبراير 2003م الموافق 10 ذي الحجة 1423هـ