يبدو التقرير الذي قدمه وزير الخارجية الاميركي كولن باول عن الارهاب امام مجلس الامن شبيها بأحد التقارير الحكومية المثيرة على الصفحة الاولى لصحيفة «نيويورك تايمز» إذ بالتأكيد ستتعامل مع الامر برزانة اكثر بعد الافشاء عن الادلة المزعومة. فمصادر باول غامضة غموض مصادر الصحيفة الاميركية المذكورة، وهي «مصادر استخبارات خارجية»، «مصادرنا»، «منشقون»، و«مصادر»... لقد كانت الجلسة شبيهة ايضا بتسخين شوربة بائتة. فالجنرال لم يأت بجديد. ألم نسمع غالبية هذه المعلومات من قبل؟ وهل علينا ان نصدق هذا الرجل؟ اقصد الجنرال باول وليس صدام حسين.
بالتأكيد نحن لا نثق بصدام، ولكن عرض وزير الخارجية الاميركي باول كان للأسف خلطة من التسجيلات المضحكة عن التقاط مكالمات هاتفية لضباط الحرس الجمهوري العراقيين ربما تمثل دليلا ضعيفا مرعبا على أن صدام في الحقيقة يخدع مفتشي الاسلحة التابعين للامم المتحدة، وكذلك بعض المواد القديمة عن طاغية بغداد وهي جميعها معلومة للغاية في سجل وحشيته.
كان من ضمن الحوار: «حسنا رفيقي، اعتبر التوجيهات منجزة ... سيدي» هذه الكلمات من «النقيب ابراهيم» من الحرس الجمهوري، وهناك بعض الشرائح والصور لقاطرة صغيرة تمثل معملا بيولوجيا متحركا إذ تبدو المركبات وعربات السكة الحديد في حال جيدة، ما يشير إلى أن البنتاغون لا يمتلك معلومات كافية عن وضع جيش صدام الخرب.
بدأنا في احتساء الشوربة القديمة البائتة وذلك من خلال الرجوع إلى حلبجة وانتهاكات حقوق الانسان، وكل مساوئ صدام القديمة كما سجلها فريق اليونسكوم غير الموثوق به والتابع للامم المتحدة سابقا. ويعتقد وزير الخارجية البريطاني، جاك سترو ان هذه الادلة المقدمة هي «الاكثر قوة وبينة دامغة وموثوقة».
ولكن عندما نجبر على الاستماع إلى محادثة الضابط العراقي عبر الهاتف: «نعم» «نعم»، «نعم»؟- انه من المستحيل ألا يسأل المرء نفسه، هل وضع كولن باول حقيقة في الاعتبار أثر هذه المكالمة على العالم الخارجي؟ من وقت إلى آخر تظهر هذه الكلمات: «العراق: الفشل في نزع التسلح، الانكار، والاحتيال» على شاشة فيديو ضخمة خلف الجنرال باول. قد يتساءل بعضنا في استغراب: هل ذلك شعار الشبكة الاخبارية «سي إن إن»؟ طبعا لا، ولكنه شعار القناة الزميلة للشبكة المسماة بـ «وزارة الخارجية الاميركية».
ويرغب الواحد منا في تصديق باول، على افتراض انه الشرطي المثالي للنظام البوليسي السيئ الذي يقوده بوش ورامسفيلد.
يأمر الضابط العراقي عبر الهاتف، كما جاء في الادلة المزعومة - مرؤوسة «ازيلوا الادلة المحظورة، جاءتكم التوجيهات اللاسلكية». يبدو في هذه ان الاميركيين في الواقع حددوا قرينة صغيرة جديدة وقذرة في المكر العراقي، ولكن الصورة المثيرة لطائرة عراقية من دون طيار تستطيع ان ترش الكيماويات السامة قلبت المسألة إلى عمل خيالي لفنان الفبركة في البنتاغون.
وعندما بدأ الجنرال باول الثرثرة بشأن «عقود» من الاتصال والتعاون بين صدام والقاعدة، فإن الامور انقلبت في غير مصلحة وزير الخارجية. فتنظيم القاعدة لم يخرج إلى الوجود إلا قبل خمس سنوات فقط، إذ كان بن لادن من قبل يعمل - «لعقود ماضية» - ضد الروس لمصلحة الاستخبارات المركزية الاميركية، التي جلس رئيسها الحالي خلف كولن باول مكفهر الوجه في مجلس الامن.
وكانت النسخة الجديدة لكذبة رئيس كولن باول - أن «العلماء» الذين قابلهم مفتشو الامم المتحدة هم عملاء استخبارات عراقية متنكرون - عادية وغير مثيرة. ومضت نسخة الكذبة الجديدة مشيرة إلى ان الامم المتحدة تحدثت مع العلماء، ولكنها تريد اشخاص «العلماء» البيولوجيين والنوويين الحقيقيين لاستجوابهم!. وقال الجنرال باول ان اميركا تعاونت بمعلوماتها مع المفتشين، ولكن من الواضح ان كثيرا مما قاله عن تطوير اسلحة جديدة مزعومة - ازالة التلوث في شاحنة في مصنع التاجي للذخائر الكيماوية، مثلا، ونظافة مصنع ابن الهيثم للصواريخ البالستية في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي - لم يعطِ للأمم المتحدة في الوقت المناسب.
لماذا لم تعط هذه المعلومات الاستخبارية إلى المفتشين قبل عدة اشهر؟ ألا يؤمن الجنرال باول بطلب قرار الامم المتحدة 1441 بأنه يجب اعطاء جميع المعلومات الاستخبارية إلى هانز بليكس وفريقه فورا؟ هل - ربما - لأن الاميركيين لم يكونوا يؤيدون سابقا هذا الاتجاه؟ ولكن... اسوأ لحظة في هذه الجلسة عندما بدأ الجنرال باول الحديث عن الانثراكس وهجمات الانثراكس في العام 2001 في واشنطن ونيويورك، مشيرا كذبا إلى علاقة بين صدام حسين ورعب الانثراكس في العام 2001.
وعندما اشار وزير الخارجية إلى دعم العراق لحركة حماس الفلسطينية التي لها مكتب في بغداد باعتباره إثباتا على دعم صدام للارهاب، طبعا لم يذكر دعم اميركا لاسرائيل واحتلالها للاراضي الفلسطينية، وهو ما ادى إلى تساقط الأدلة وتهاويها. فهناك مكاتب كحماس في بيروت، ودمشق وايران.
هل ستسحق القنابل المحمولة جوا لبنان وسورية وايران ايضا؟
وكان الافتتاح الرهيب للمسرحية عندما وصل الجنرال باول إلى مجلس الامن، حين شرع بتقبيل خدود المندوبين واحتضانهم بذراعيه الضخمين، وكان ان حظي جاك سترو بأعظم عناق مقارنة بالآخرين! في الواقع كانت هناك لحظات يشعر المرء فيها بأن القاعة التي ملأتها الابتسامات والمصافحات الحارة، كأنها تضم رجالا يحتفلون بالسلام بدلا عن الحرب. ويا للحسرة... إذ لم يكن الامر كذلك، فهؤلاء المندوبون المتأنقون في ملابسهم والذين يمثلون بلدانهم، يسعون إلى التوصل إلى اطار اتفاق يسمح لهم بقتل اكبر عدد ممكن من البشر، ربما من بينهم صدام الوحشي ورفاقه، ولكن سيذهب ايضا عدد كبير من الابرياء معهم. طبعا، يتذكر المرء القاعة نفسها قبل اربعة عقود عندما عرض سلف الجنرال باول، أدلي ستيفنسون، صورا لسفن تحمل صواريخ سوفياتية إلى كوبا.
ومما يثير الحسرة ان صور اليوم لا تحمل الصدقية والقوة المقنعة نفسها، كما ان كولن باول ليس بمستوى ادلي ستيفنسون.
خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط
العدد 159 - الثلثاء 11 فبراير 2003م الموافق 09 ذي الحجة 1423هـ