العدد 158 - الإثنين 10 فبراير 2003م الموافق 08 ذي الحجة 1423هـ

المنحى الجديد لصراع النفوذ الأميركي - الفرنسي على المغرب العربي

سمير صبح comments [at] alwasatnews.com

.

يخطئ من يعتقد بأن حدة التباين الظاهرة حاليا بين فرنسا والولايات المتحدة سببها الوحيد الموقف من الحرب المحتملة ضد العراق، او احادية القرار في العالم، او حتى تجاوز دور الامم المتحدة. فالمسألة «ليست رمانة، بل قلوب مليانة»، كما يقول المثل، تدخل في صلب استراتيجيات ومصالح الدول المعنية في هذا النزاع القائم. الدليل على ذلك، ما طفح أخيرا على السطح من سجالات علنية بين المسئولين الفرنسيين ونظرائهم الاميركيين بشأن السياسات المتبعة، وتجاوز خطوط التماس المتوافق عليها ضمنا في افريقيا بشكل عام وفي منطقة المغرب العربي تحديدا. ولم يعد هنالك حديث في الآونة الاخيرة في هذا الجزء من العالم العربي سوى عن الاختراقات المتبادلة بين الطرفين او نشوء محاور تضم حلفاء جدد لكل من الفريقين، او استخدام الوسائل كافة لبسط النفوذ والسيطرة، على الثروات الطبيعية والتحكم بالاسواق.

فلم يعد الفرنسيون ومعهم مجموعة من دول الاتحاد الاوروبي يعتبرون في تصريحاتهم، كما كان الحال في السابق، مبادرة الشراكة الاميركية - المغاربية المعروفة باسم «ايزنستات»، بمثابة حال تكاملية مع مشروعهم اليورو - متوسطي. بل بات الحديث بمجمله منصبا على المخاوف من تكريس الهيمنة الاميركية التي لا تعرف حدودا لشيء ولا تحترم المواثيق ولا اصول التحالفات.

تفجر الموقف علنا مع اقتراب توصل واشنطن والرباط إلى المرحلة ما قبل النهائية لتوقيع الاتفاق القاضي بانشاء منطقة للتبادل التجاري الحر فيما بينهما. ما حدا بوزير التجارة الخارجية الفرنسي المنتدب، «فرنسوا لوس»، للقول في مؤتمر صحافي عقده في 15 يناير/كانون الثاني الماضي بالعاصمة المغربية بلهجة لا تخلو من الشدة والتهجم انه يجب «على المغرب ان يختار بين شراكته مع اوروبا او مع اميركا».

الرد على هذا التصريح الذي اعتبره المغاربة استفزازيا وتدخلا في شئونهم لم يتأخر. فقد افهموا الحكومة الفرنسية بأنه يتحتم عليها ان تدرك انه على رغم الصداقة والعلاقات التاريخية والثقافية التي تربط بعضهما بعضا، فإن المملكة المغربية ليست ملكية خاصة لأحد ولا حقلا مشاعا للشركات الفرنسية. اما الملفت في هذا السجال الدائر، هو دخول ممثل الادارة الاميركية، «روبرت زولليك»، المكلف بالاشراف على ملف اتفاق التجارة الحرة مع المغرب على الخط، مذكرا بأن «فرنسا لاتزال تعيش اسيرة رؤيا يعود تاريخها إلى العصر الاستعماري المركنتيلي» بحسب تعبيره. منذ ذلك اليوم، وصراع النفوذ يأخذ اشكالا متعددة، متنقلا بين بلد مغاربي وآخر، مرشحا للاستمرار في الاشهر المقبلة من دون ان يخلو ذلك من انعكاسات على الاوضاع الداخلية في كل قطر من اقطار المنطقة وتجاذباتها عشية سلسلة الاستحقاقات المقبلة.

ويكاد لا يمر يوم او يومين من دون ان تستقبل الرباط، تونس، الجزائر وحتى ليبيا مسئولا أوروبيا او فرنسيا، بدءا من وزراء الخارجية مرورا بوزراء الدفاع والداخلية وحتى رؤساء الدول وحكوماتها. اما وزراء الاقتصاد والتجارة والمال، فحدث ولا حرج.

نحو تحالف أكثر استراتيجية

للمرة الاولى في تاريخ العلاقات الاميركية - المغربية، يلتزم مسئول اميركي رفيع المستوى بهذا النوع من الوضوح والدقة حيال تطوير التحالف العسكري بين بلاده والعرش العلوي. جاء هذا التوحد عبر جملة تلفظ بها مساعد وزير الدفاع للشئون الامنية «بيتر رودمان» خلال لقائه الصحافة المغربية بالرباط في نهاية شهر يناير الماضي والتي لخصت اولويات البنتاغون في المرحلة المقبلة. اعلن «رودمان» ان «بلاده ستزيد من حجم المساعدة العسكرية واللوجستية التي تقدمها إلى المغرب». ما فسره المراقبون على انه اكثر من لفتة صداقة، لأن الامر هو كناية عن رسالة اراد توجيهها إلى من يهمه الامر، اي الفرنسيين والاوروبيين بصورة خاصة. فالوضع لم يعد يقتصر اذن على عبارات المجاملة المعهودة التي تتحدث عن تحالف مميز او عن تعاون ثنائي، بل عن شراكة استراتيجية بكل معنى الكلمة.

في هذا السياق، يفسر المحللون السياسيون الاوروبيون المتتبعون عن كثب للنهج الحالي المتبع في منطقة شمال افريقيا من قبل ادارة بوش، على الصعد الاقتصادية والعسكرية او الامنية بأنه نتيجة للتوجهات الجديدة الكبرى لوزارة الدفاع. ويرى هؤلاء ان وراء هذا التصميم، مشروعا استراتيجيا طموحا يهدف للمرة الاخيرة إلى وضع اليد نهائيا على كل القارة الافريقية، بما فيها دول المغرب العربي. في خضم هذا التصور، يجب فهم مضمون الرد العنيف الذي وجهه روبرت زولليك إلى الوزير الفرنسي، فرنسوا لوس. فتحت التفكير الفرنسي بالعودة إلى عصر الاستعمار المركنتيلي يتقاطع كليا مع طروحات زميليه رودمان او نائب سكرتير الدولة للشئون السياسية مارك غروسمان اللذين تعمدا خلال زيارتهما المغرب التشديد على القول إن هذا «البلد صديق منذ زمن بعيد، كما هو حليف استراتيجي ثابت للولايات المتحدة». موقف فهمت الجزائر ابعاده ومعانيه، هي التي كانت تأمل انتزاع هذا الموقع من جارتها الملكية. لكن يبدو ان هذا الخيار كان محسوما سلفا بالنسبة إلى قادة البنتاغون، كما هي الحال في آسيا، او في المنطقة الواقعة بين شبه الجزيرة العربية وجزر ارخبيل جنوب شرق آسيا. فالمؤسسة العسكرية الاميركية انتقلت عمليا من مرحلة البحث عن نقاط ارتكاز جديدة، كالتحالفات الظرفية، والقواعد الدائمة، او نقاط المرور البحرية والبرية، إلى شراكة استراتيجية في جميع المجالات. هذا ما هو على طريق الانجاز حاليا مع المغرب، بحسب رأي محلل في مجلة الدراسات الدفاعية، «كيو - دي - آر»، الصوت الوفي لصقور الحزب الجمهوري.

واذا كانت هنالك مسائل حساسة، تمس المصالح المباشرة بين اوروبا واميركا، فإن هذا العامل هو في المقابل غير موجود بين الرباط وواشنطن، اللتين تجمعهما نقاط مشتركة متعددة. فالمغرب الذي اعتمد سياسة تقوم على تنويع الشركاء، ليس لديه ادنى نية لتفويت الفرص التي تلوح في الافق، وخصوصا في هذه المرحلة الدقيقة، فالملك محمد السادس يعي تماما اهمية تلاقي مصالح بلاده وتلك العائدة إلى الولايات المتحدة، وينسق خطواته بمهارة على اساسها. فعدا التعاون الامني الجاري على قدم وساق على اعلى المستويات منذ ما قبل الحادي عشر من سبتمبر/ايلول والمساعدات الفنية المقدمة إلى بلاده في عدة قطاعات اقتصادية وغيرها، فإن العاهل المغربي يحسب بدقة ابعاد التقليد السياسي والاقتصادي الاميركي المتبع، محاولا مواكبة تحوله باتجاه منطقة شمال افريقيا. فالعقلية الاميركية التي لم تعط مطلقا اهمية للسياسة الصناعية العامة، بررت ذلك بالتركيز الاستثنائي على حماية الابحاث والاختراعات الخاصة. اذ يكفي ان نعلم بأن واشنطن تنفق ما مقداره 60 بليون دولار زيادة على اوروبا في مجالات الابحاث والتنمية ليكون سببا واضحا لاقناع المغاربة بربط مقطورتهم بالقاطرة الاميركية بهدف الاستفادة من تكنولوجياتها المثقفة وغير المتوافرة في اوروبا. فالتحالف الاكثر استراتيجية على هذا النحو من شأنه ان يعطي المغرب جواز مرور إلى هذا المحيط، على غرار ما هو حاصل منذ سنوات بالنسبة إلى «إسرائيل».

فعلى المغرب، بحسب رأي مسئولين كبار فيه، ان يستفيد ما امكن من فرصة كهذه، من الممكن ألا تتكرر، كما عليه ان يغلق آذانه بوجه المزايدات التي تأتي من هنا وهناك لثنيه عن هذه الاستراتيجية خوفا من الوقوع في فخ التبعية الكاملة لاميركا، تحول البلد إلى جمهورية مورا جديدة. فعليه، والحال هذه، وخلافا للماضي، ان ينتزع في اطار ثلاثي مصالحه مع اميركا، على الحصة التي تعود إليه من هذا التحالف، وتتلخص هذه الحصة في دعم واشنطن للرباط في قضية الصحراء الغربية مرورا ببدء العمل سريعا بمنطقة التبادل التجاري الحر، وصولا إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وفي طليعتها الاميركية. ويرى الاقتصاديون المغاربة ان هذا التحالف من شأنه ان يعطي بلدهم الحق بالاستفادة من موازنات المساعدة الثابتة والرسمية التي تخصصها الادارة الاميركية سنويا لحلفائها الاساسيين بهدف احداث توازن في مختلف موازينها، كما هو الحاصل اليوم مع كل من مصر والدولة العبرية. كذلك، حث المؤسسات المالية العالمية على زيادة حجم مساعداتها وقروضها للمغرب. في هذا الاطار قال خبراء صندوق النقد الدولي ممن زاروا المغرب لمدة خمسة ايام في بداية الشهر الحالي انهم يدعمون مساعي هذا البلد لاقتراض 500 مليون دولار من الاسواق الدولية. وليس من باب المصادفة ان يأتي هذا الدعم عشية الحرب المحتملة في العراق، والتي ستكون لها انعكاسات سلبية على الاقتصاد المغربي.

على اية حال، احدثت الجملة، التي تعمد «بيتر رودمان» ذكرها عن زيادة المساعدة العسكرية واللوجستية للمغرب، ارباكا لدى الدوائر الفرنسية والجزائرية على السواء، اذ فسرها البعض بمثابة «منعطف لن يتأثر عند ترك آثاره على مجريات الحوادث كافة بمنطقة شمال افريقيا». من هنا يمكن تفسير محاولة باريس اقناع الرئيس بوتفليقة، بالاسراع بعقد اجتماع مع الملك محمد السادس على هامش القمة الافريقية - الفرنسية التي ستعقد في السابع عشر من هذا الشهر لبحث مشكلة الصحراء الغربية والتفاهم على خطة لايجاد حل لها يتماشى مع مصالح جميع الاطراف. من جهة اخرى يعتبر المحللون بأن المصالحة الاخيرة بين المغرب واسبانيا، التي بدأت بوصول وفد كبير من ارباب العمل السابقين عشية زيارة وزير الخارجية آنا بالاثيو ولقائها العاهل المغربي وإعلان عودة السفراء، ليست إلا بداية لسلسلة طويلة من الانعكاسات المذكورة. فاذا كانت هذه الاشتباكات طرحت اكثر من علامة استفهام وتحفظات كثيرة من قبل الاوروبي وبعض الجوار المغاربي، فإن ذلك لن يغير من حقيقة كثير من مجريات الحوادث، ذلك لأن هذا التحالف الاكثر وضوحا مع المغرب هو خيار استراتيجي يبدو اليوم ألا رجعة فيه. فالاميركيون يدركون اكثر من اي وقت مضى ابعاد خيارهم هذا، ويعرفون اسبابه وخلفياته.

الهجمات المضادة

امام هذا الاختراق الاميركي المركز والموسع لدول شمال افريقيا، لم يكن امام فرنسا سوى التحرك السريع واتخاذ قرارات حاسمة، على ما يبدو، لاعادة صوغ سياساتها في منطقة المغرب العربي. في هذا الاطار يؤكد مسئول مغاربي كبير، أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك جمع منذ حوالي شهرين جميع المعنيين بملفات دول المنطقة، من كبار الموظفين في وزارة الخارجية والدفاع والاقتصاد والاجهزة الامنية والمخابراتية، لابلاغهم بأبعاد الاختراق الاميركي وخطورته على مصالح فرنسا وبالتالي ضرورة وضع خطة تحرك ليس لمواجهته فحسب، بل لاستعادة المواقع التي فقدتها في السنوات الاخيرة نتيجة الاهمال والابتعاد عن تفهم مطالب هذه الدول الموقعة مع فرنسا اتفاقات ثنائية في جميع المجالات. فمنذ اشهر تستقبل عواصم البلدان المغاربية المسئولين الفرنسيين، الواحد تلو الآخر، تمهيدا لاعداد الملفات كافة التي سيناقشها الرئيس الفرنسي في جولته المقبلة التي ستبدأ بالجزائر في بداية شهر مارس/آذار. وخطت باريس خطوة لا سابق لها، اذ قررت الحكومة اعادة النظر في تسليح جيوش هذه البلدان وتوفير متطلباتها من التجهيزات المتعلقة بالأمن ومكافحة الارهاب. في هذا الصدد ابلغت فرنسا الاسبوع الماضي، بعد رفض استمر اكثر من عشر سنوات، حكومة الجزائر بموافقتها على تجهيز اجهزة الأمن وتدريب وتأطير افرادها. ما تزامن مع موافقة مبدئية اعطيت من قبل الإدارة الاميركية لكنها لم تتحدد بتاريخ او جدول زمني. ولم تكتف باريس بما قامت به حتى الآن، سواء بفتح الابواب ومواكبة «عام الجزائر في فرنسا» وتقديم التسهيلات الكفيلة بانجاحه ودفع مؤسسة دعم الصادرات الفرنسية «كوفاس» إلى زيادة خط اقراضها للجزائر، بل تحركت على جبهة مهمة وهي الصحراء الغربية، والعمل جديا على المساهمة في حل هذه المعضلة التي تعيق انطلاقة اتحاد دول المغرب العربي. وتبذل باريس جهودا استثنائية في هذه الفترة لجمع الرئيس بوتفليقة مع الملك محمد السادس. مهمة ليست سهلة نظرا إلى تشابك المصالح، استراتيجيا واقتصاديا. هذا في الوقت الذي لا يمكن - بحسب تقدير الخبراء - ان تترك واشنطن هذه الملف لفرنسا كي توظفه لاحقا في اطار استراتيجيتها المغاربية، وخصوصا انها قطعت اشواطا عبر «خطة بيكر» المعروفة، التي تتبناها الامم المتحدة. ويضيف الخبراء أنفسهم، بأن اميركا تملك من اوراق الضغط الكثيرة في الجزائر لعرقلة جهود فرنسا، بدأت على ما يبدو استخدام احداها منذ ايام عبر التذكير بأن الوضع الأمني في الجزائر لايزال مقلقا، كما يجب على رعاياها الاستعداد بترك البلاد وعدم التجول عند غروب الشمس، ما يعقد مهمة الحكم في الجزائر الذي يسعى جاهدا إلى تجميل صورته الخارجية والعودة مجدد إلى الساحة الدولية. هذا الموقف يؤثر على تدفق الاستثمارات نحو قطاعات اساسية مثل الهيدروكربورات ويناقض ما طرحه منذ اسبوعين المسئولون الجزائريون في ندوات وحلقات دراسية عقدها رئيس الوزراء علي بن نليس وعدة وزراء في العاصمة الفرنسية.

الصراع على النفوذ في الجزائر بين فرنسا والولايات المتحدة لم يعد ضمن الحدود التي كان متفقا على عدم تجاوزها، بل خرج للعلن، ما يجعل المنطقة حبلى بالمفاجآت وخصوصا اذا ما اخذنا في الاعتبار أن واشنطن حذرت رعاياها في الجزائر في حين لم توجه اية ملاحظة بهذا الشأن إليهم في كل من المغرب وتونس، الذي وصف بيتر رودمان العلاقة معهما بالمتقدمة جدا في حين رأى انها مع الجزائر لاتزال في بدايتها

العدد 158 - الإثنين 10 فبراير 2003م الموافق 08 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً