العدد 158 - الإثنين 10 فبراير 2003م الموافق 08 ذي الحجة 1423هـ

حين يدفع العالم كله ثمن حماقات المغامرين

من الإسكندر الأكبر إلى بوش الصغير:

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يتألم المرء حين يفكر في مصير العالم، ومن يمسك بأزمة الأمور ويتحكم في مصائر الشعوب وكأنها دمى يحركها بأصابعه. في عصر الامبراطوريات الكبرى لم تصل درجة التحكم إلى هذا المبلغ الخانق، فقد كانت الأمبراطوريات القديمة تنطلق من جزء من العالم، لتسيطر على أجزاء أخرى وتفرض هيمنتها على الشعوب المجاورة، التي عليها أن تسمع وتطيع. وفي التاريخ عبر وقصص، إذا قرأتها وفتحت عينيك على عالم اليوم، لرأيت التاريخ يعيد نفسه، وكما قيل بحق: في المرة الأولى يكون مأساة، وفي الثانية يكون ملهاة، ولكنه في زمن الامبراطورية الأميركية اجتمعت على رؤوسنا المأساة والملهاة معا!

البحث عن أرض للقتال

التاريخ مليء بالحمقى والمغامرين، والقادة الطامحين، وفي بعض صفحاته روايات شتى عن الاسكندر المقدوني، بعضهم يرفعه إلى مقام الأساطير فيدّعي ان رائحة طيبة كانت تفوح من جسده حتى تعطر ملابسه، وبعضهم يعتبره من القادة العسكريين العظام، ولكن لو أتيح لنا أن نتحدث اليوم لمن عاصره من أبناء الفقراء والمساكين، من الشعوب التي نزل فيها قتلا بسيوفه في المعارك التي خاضها، أو حتى من جنوده ومواطنيه، لكان للناس رأي آخر فيه. ولكن من المفيد جدا أن نفهم نفسية تلك الفصيلة من البشر التي كرست حياتها للغزو والحرب والقتل وذبح شعوب الأرض. فالله يخلق، وهؤلاء يقتلون!

في بداية حياته، جيء بحصان جامح استعصى ظهره على الراكبين، فتصدى له الفتى (الاسكندر) مصرّا على ترويضه، واكتشف انه يخاف من ظله، فاستدار به بحيث يواجه الشمس، حتى استطاع ركوبه والجري به في الميدان، وعندما عاد به من التجوال قال له أبوه الملك المقدوني فيليب: «يا بني، اذهب وابحث لنفسك عن أرض تسعُك، فمقدونيا صغيرة جدا عليك». وكان أبوه من الفصيلة نفسها، التي تستمتع بقتل ما يخلق الله وسرقة الأراضي ونهب الشعوب! فكان الابن يُسرُّ إلى أصدقائه بأنه إذا ما استمر أبوه في غزواته، فلن يبقى له من ارض يغزوها إذا ما أصبح ملكا، ولذلك كانت أخبار انتصارات أبيه على المدن القديمة المجاورة تحزنه. فقد أراد الاسكندر مملكة دائمة الاستنفار، تعيش في دوامة من المشكلات واختلاق الحروب، ليتوافر أمامه مسرح للقتال يثبت من خلاله قدراته وشجاعته. ولذلك جمع وراءه 50 ألفا من المشاة، و5 آلاف من الفرسان، في حرب الفرس في آسيا الصغرى آنذاك، وتتبعهم إلى سورية ومصر، وشرّق في مغامراته وغرّب، أشقى خلالها البلاد والعباد، وأزهق الأرواح، وأوقع من الإصابات والجراحات بجيوش الدول الأخرى والمدنيين، ودمر المدن والقرى، كلها من أجل طموح أعمى، وجاه ضرير، لكي يقال عنه إنه رجل شجاع!.

في مواجهة العجوز «ديوجين»

قبل أن يغادر بجحافله في رحلة الغزو الطويلة، أتاه السياسيون والفلاسفة يهنئونه على مسعاه العظيم، إلا انه لاحظ غياب «ديوجين»، فذهب إليه. وكان الفيلسوف العجوز متمددا يستدفىء بالشمس، فلما أحس بصوت حوافر الخيول اعتدل قليلا - فقط - في جلسته، ولما وصل الاسكندر وقواده يتبعونه، سأله:«هل يمكن أن أعمل لك شيئا؟» فأجاب: «نعم، تنحّ لئلا تحجب الشمس عني»، فضحك الأتباع - أمثال رامسفيلد وكونداليزا رايس وتشيني - على سذاجة العجوز، فقال قائدهم: «اضحكوا ما شئتم، ولكني لو لم أكن الاسكندر لأحببت أن أكون ديوجين».

وعندما همّ القائد بالانصراف سأله ديوجين: «إلى أين تسير بهذه الجحافل؟». أجاب: «أريد أن أغزو فارس». فسأله: «ثم ماذا؟» فأجاب: «ثم الهند». وعاد يسأله: «ثم ماذا؟»، فأجاب: «ثم أغزو الصين». «ثم ماذا؟» فأجاب: «سأغزو شمال إفريقيا» «ثم ماذا؟»، فأجاب: «بعدها سأعود إلى مقدونيا لأستريح»، فقال ديوجين ساخرا: «ولماذا لا تستريح من الآن؟».

أحد عشر عاما قضاها الرجل في البلاد الأجنبية غازيا قاتلا مستبيحا لأموال وأعراض وممتلكات الشعوب الأخرى، غزو استمر 11 عاما... ليعود بعدها ويستريح ويستدفىء في شمس مقدونيا!. المهم أن يُثبت قدرته وشجاعته وعبقريته، وليترك بصمته في كتب التاريخ!.

أشير إلى ان هناك خطأ شائعا عند الكثيرين وهو اعتبار الاسكندر هو ذو القرنين الذي ورد ذكره في القرآن الكريم محاطة سيرته بذكر عطر، ولكن العلامة الطباطبائي، مفسر القرآن والمتبحر في علومه، ينفي ذلك نفيا، وما يعزز ذلك ما بناه من معابد للآلهة اليونانية، وهو خارج هذا السياق.

لو تأملنا سيرة الرجل، لن نراها أكثر من مغامرة امتدت إلى أحد عشر عاما، ملآى بالدم والعرق والآلام والجروح، خرج من مقدونيا وعمره 22 عاما، ومات غريبا في «بابل»، فقد قضت عليه الحمى الشديدة وهو لم يتجاوز الثالثة والثلاثين. صحيح أن مملكته وصلت إلى تخوم الصين، إلا أنه بعد قليل من موته تفككت تلك الامبراطورية العظمى وتوزعت الغنائم بين أربعة من القواد الكبار. وهكذا على الشعوب أن تدفع ثمن حماقات وطموحات القادة والغزاة.

المغامرة الجديدة

واليوم يقف العالم أجمع ليشهد مغامرة تاريخية كبرى، تتجاوز كثيرا أبعاد المغامرة القديمة، فساحة المعركة اليوم أكثر اتساعا، وآثارها أعظم هولا، وإذا كانت المغامرة القديمة لم تتعد حدود الدول التي اصطلت بها، وربما لم تسمع الشعوب الأخرى البعيدة بما حدث، فإنه مكتوب على جميع شعوب الأرض اليوم أن تشهد فصول المأساة المقبلة، وتتابع مجرياتها منذ صمّم الامبراطور الجديد بوش على ضرب العراق في أعقاب هجمات نيويورك وواشنطن. على ان هذه المقارنة السريعة التي تجرها إلى الذهن قسرا القراءة في التاريخ، تخفي وراءها فوارق كبرى أيضا بين شخصيتي الفارسين،«الغازيَيَن، الطموحَيْن». ربما من أهمها أن الاسكندر كان يقول: «أمران ما فتئا يذكرانني بأنني بشر ولست إلها، الحاجة إلى النوم والنساء»، لكن اسكندرنا يصر منذ بداية مشواره على تصنيف 6 مليارات من أبناء آدم: «إما معنا في الجنة، وإما ضدنا في النار»!

بوش الصغير وتابعه «قفة»

المتتبع لتصريحات الرئيس الأميركي بوش الصغير ستدهشه التناقضات الكثيرة في تصريحاته المتناثرة التي يطلع بها على العالم. فحتى الآن لم يجد له من بين أكثر من مئة وثمانين دولة من ذهب إلى تأييده في حربه المعلنة على العراق، غير بعض الدول الأوروبية الصغيرة التي فأجات العالم بإعلان موقفها، وغير بعض الدول الخجلى من مجرد الإعلان! وهناك شقي آخر اسمه «بلير» وقف منذ البداية يؤيده بقوة حتى بحّ صوته، من دون أن يحظى بتأييد شعبه، بل ان النواب من حزبه، وقفوا معلنين معارضتهم الشديدة لما يقدم عليه من تأييد مطلق، بل إن صحافة بلاده وصفته بـ «الكلب المخلص»، وهو أبلغ تعبير عن حال التبعية التي انتهجها في سياسته الداعمة بالمطلق للولايات المتحدة. وكانت آخر حماقاته تقديمه الملف المسروق من بحث أكاديمي عمره 11 عاما بأخطائه الإملائية... على أنه أدلة دامغة تُدين العراق!

مَنْ نصدِّق: «أنا صبور» أم «لقد نفد الصبر»؟

من هذه التناقضات الفاقعة للإسكندر الجديد انه وقف قبل شهرين أمام عدسات المصورين متباهيا بقدرته على التحمّل وواصفا نفسه بأنه «رجل صبور»!!، أما اليوم وقد ابتدأ العد التنازلي للهجوم على العراق فإنه غيّر لهجته قائلأ: «لقد نفد الصبر»! فما عدا مما بدا يا مستر بوش؟ ما الذي استجد؟ أين ذهب صبرك؟ ما الذي فعله العراقيون فجفف صبرك؟ فالنظام في العراق دأب على الإعلان مرارا وتكرارا عن التعاون الكامل مع مفتشي الأسلحة، ومستعد لعمل كل ما تريدون منه ليخرج من الورطة، ولم يتم العثور على أسلحة دمار شامل، باعتراف الخادمَيْن الدوليَّين المخلِصَين: بليكس والبرادعي.

هل ندم بوش على حشر كوريا الشمالية في «محور الشر»؟

على أن من الأخطاء القاتلة التي وقع فيها بوش هو حشره لكوريا الشمالية ضمن «محور الشر»، وهو فخ نصبه ليوقع فيه بعض الطرائد القريبة فإذا برِجْلِهِ تعلق بالشَرَك. فقد كان أمامه دول أخرى مثل كوبا وليبيا، صالحة للترشيح لحمل اللقب، فهي من الدول التي وقفت طويلا ضد السياسة الأميركية في العقود السابقة، ولكن يوم إطلاق اللقب لم تكن هناك حاجة إلى حشرها، فكان الاكتفاء بدولة من العالم العربي، وأخرى من العالم الإسلامي، على أن تحشر معهما دولة أخرى بعيدة عن هذا المحيط، لإبعاد شبهة معاداة الرئيس للإسلام، وخصوصا بعد أن فلت من لسانه تعبير «الحرب الصليبية»، والذي سرعان ما تنصّل منه بعد أن نبّهه «الأصحاب». على أن حشر كوريا في المثلث كان من السقطات الكبرى لبوش، فكان عليه أن يدفع ثمن غلطته بما أبداه النمر الكوري من وقفة وتحدٍ، غابت لهجته عن المحيط العربي والإسلامي بعد أن نكس الجميع رؤوسهم .

بين الآباء والأبناء

على ان هناك جانبا آخر في المقارنة: الملك المقدوني كان يريد لابنه البحث عن أرض جديدة، وكان الابن يحزن لأن أباه لم يترك له أرضا، ومن حظ بوش الصغير أن أباه لم يقدم على إسقاط صدام في أعقاب حرب الخليج الثانية، فظل العراق الغنيمة الجاهزة مجمّدا، طوال ثمانية أعوام، حتى يعود المُلك إلى ابن الملك السابق، وخصوصا أنه لم يصل إلى الكرسي إلا بشق الأنفس، رئيسا ليس له باع في السياسة، ولا يدري بجغرافية الدول، ليحكم العالم... وليضمن البقاء لابد أن يقود «مملكة دائمة الاستنفار، تعيش في دوامة من المشكلات واختلاق الحروب، ليتوافر أمامه مسرح للقتال يثبت من خلاله قدراته وشجاعته». وفي هذه الظلمة الخانقة، علينا ان نعيش الملهاة المأسوية حتى الفصل الأخير

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 158 - الإثنين 10 فبراير 2003م الموافق 08 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً