العدد 158 - الإثنين 10 فبراير 2003م الموافق 08 ذي الحجة 1423هـ

الثقافة والمثقف والمعلوماتية

الدمام- زكريا الراشد 

تحديث: 12 مايو 2017

الثقافة الحية التي تحمل في ثناياها بذور الحضارة، هي التي تستطيع التفاعل مع كل عصر بروح المرتكزات الذاتية. فالتجديد بالنسبة للثقافة الحية المبدعة ليس أمرا استثنائيا وإنما هو أمر صميمي، إذ تحمل الثقافة الحية روح التجديد في أصولها وفروعها. وبالتالي فإنها تتحرك عبر دورتين: دورة داخلية يتم عبرها تجديد وتحديث مواقع المفردات والأولويات والإعادة المستمرة في صوغ الأسئلة ومن ثم تركيز وترميز اليقينيات، أما الدورة الثانية للثقافة فتتم تجاه الخارج، وهي حركة تفاعل جميع ما ذكر مع الواقع ومتغيرات الزمن، وما يكتنفه من أحداث وتفاعلات. وبالتالي فهو تفاعل مع ثقافة الآخر وما يحمل من رؤى ونظرات تجاه جميع المناشط الحياتية، وعند بلوغ هذه المرحلة فإن هذه الثقافة في الغالب تتخذ مواقف ذات منحى تحديثي وتطويري، وهذا الأمر يتم بشكل دائم ووفق معطيات الأحداث وتداعياتها. والثقافة في الدورة الثانية تكون فاعلة أكثر من كونها منفعلة، وكونها فاعلة يعني أننا نفترض قدرتها على القيام بثلاثة أمور هي: الأمر الأول: فهم الآخــر، الأمر الثاني: القدرة على التحاور والتعاطي الإيجابي مع الآخر، الأمر الثالث: تجاوز سلبيات الآخر والاستفادة من إيجابياته.

وعبر التطور التكنولوجي في مجال الاتصالات والقدرة الكبيرة في التواصل مع الآخر يمكن أن نقوم من خلال الانطلاق من المرتكزات الثقافية بالكثير. فالثورة المعلوماتية قربت البعيد وألغت المسافات، وهذا أمر حيوي للتطوير والتعاطي الثقافي مع الآخر، لأن توافر تكنولوجيا الاتصالات وقدرة المجتمع على التفاعل معها سيؤديان إلى إشاعة المعرفة وإتاحة المعلومة وهو أمر يزيد من فاعلية المجتمع وحيويته الثقافية والنتيجة هي امتلاك القدرة على فهم الآخر، وإدراك منطلقاته، وتحديد أهدافه.

إن الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات لم يعد أمرا قابلا للجدل، فهو أوضح اليقينيات الثقافية التي تتعامل معها العقلية المعاصرة، والمثقف العربي بدا أكثر جدية في استخدام هذه التكنولوجيا، لكننا نحتاج إلى العمل الكثير حتى نستطيع التأثير في الآخر وتوصيل المعلومة التي نريدها، وأهم ما نحتاجه للتعاطي مع الآخر يمر أولا من البوابة العربية للثقافة، وعلينا هنا أن نستفيد من المجال المعلوماتي في التعاطي الثقافي مع الذات ولابد من مراجعة ثقافية شاملة. وعلى المثقف العربي أن يمد جسور التعاطي مع محيطه والخروج من العزلة التي وضع نفسه فيها فالثقافة الراهنة لم تعد ثقافة إقليمية، ومن يسعى لبناء ثقافة إقليمية فإن ثورة المعلومات ستكتسح بناءه.

وقد كانت الثقافة الإسلامية منذ تكونها ثقافة تأبى التأطير والتحديد والتعامل مع المحليات، بل مكنت المثقف العربي من أن يمارس دورا كبيرا في انتشال هذه الأمة من كبوتها ووضعها من جديد على طريق التفاعل العالمي ليس من خلال التلقي فقط وإنما من خلال التوجيه الثقافي العالمي.

ونحن نمتلك كل المقومات التي تكفل القيام بهذه المهمة لكن علينا أولا أن نثق بذاتنا وثقافتنا وما تحمله من قدرة في التعاطي والفهم، وما تحويه من أصول ونظرات كونية نابعة من وعي المكون الأساس وهو القرآن الكريم.

إن سر التطور في الثقافة الإسلامية هو شموليتها وتكامليتها، وقدرتها على العطاء والتفاعل مع المستجدات. وعليه فإن عقلية المثقف العربي الذي يريد التعامل مع تكنولوجيا المعلومات لابد أن تستند إلى ماض ينهل منه خبراته وإلى حاضر يتواءم معه وينتصر على مشكلاته، وإلى مستقبل يستشرفه ويعلق عليه آماله هادفا تحقيقها عبر تجنيد قدراته وإمكاناته لتحقيقها، وعندما نقول الماضي، فلا نعني إلا الاستفادة من التجارب والخبرات التي تراكمت وغدت منهلا خصبا لوعي الذات وما تحويه من آمال وتطلعات كبيرة. وعندما تكون منطلقات المثقف محددة وواضحة، فإن ثورة المعلومات تصبح بالنسبة إليه حاجة ضرورية للتواصل الثقافي ومعرفة الآخر المختلف.

فهل يمكن للمثقف العربي تجاوز العزلة والتفاعل بشكل أكبر مع هذه التكنولوجيا أم يجعل جغرافيا الفكر والمكان تحدان من تطلعاته ؟ إن المثقف قد وعى العلاقة بين الثقافة والمعلوماتية، وأدرك الحاجة الماسة إلى المعلوماتية، ولن يمكنه تأدية أهدافه إلا بالانخراط أكثر في العالم المعلوماتي، والتحرك باتجاه الفعل والعطاء والتفاعل الحذر، حتى لا تصبح المعلوماتية فخا للمثقف والثقافة، وحتى يمكن جعل الثقافة أداة تنموية، لأن الثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته، وهي التي تجعل منه كائنا يتميز بالإنسانية المتمثلة في العقلانية، والقدرة على النقد والالتزام الأخلاقي. وعن طريق الثقافة نمارس تنميط الحياة ومن ثم نمارس الاختيارات المتعددة، وهي الوسيلة للتعبير عن النفس، وعندما يمزج المثقف العربي الثقافة بالمعلوماتية فإنه يصبح أكثر قدرة على التفاهم والتفهيم، والمعلوماتية كالثقافة تضع أمام الإنسان قدرا كبيرا من الخيارات، بدءا من المأكل والملبس وانتهاء بأفكار الإنسان وأحاسيسه.

فالمعلوماتية أهم أدوات العولمة الثقافية التي نشاهدها اليوم وهي تكتسح المجتمعات. ومن هنا تنبع مسؤولية المثقف العربي وحجم المواجهة التي لابد أن يستعد لخوضها وعليه أن يثبت صدقية الذات عبر التوجيه الثقافي المميز والمنفتح لأن عصر المعلومات كما أنه يمتاز بالسرعة الكبيرة فإنه وفي جوانب كثيرة يبسط المشكلات وهنا على المثقف أن لا يقع في هذا الفخ وينساق وراء الحلول والرؤى الجاهزة. فعليه أن يتلقى المعلومة بتفكر وتأمل، لأن المثقف هو الوسيط الذي تسعى الأمة عبر جهوده إلى النهضة من جديد، فكما أننا نحتاج إلى الثقافة، فإننا نقر في الوقت ذاته بالحاجة إلى حاملها، ولكي يحقق المثقف العربي الآمال المرجوة منه عليه أن يحسن استغلال موارد المعلومات. فالذكاء الجمعي للمجتمع لا يتوقف فقط على توافر المعلومات بل على مداومة تحديثها وتنظيمها وأرشفتها، وفوق ذلك كله، يتوقف على إشاعة قيم مجتمع المعلومات وأخلاقياته. لقد صار في حكم اليقين عدم إمكان الفصل بين قضايا التنمية وأمور الأخلاق، وتشير جميع الدلائل إلى أن صلة تكنولوجيا المعلومات بالأخلاق ستزداد وثوقا باطراد، خاصة بعد لقاءها الوشيك والمثير مع التكنولوجيا الحيوية وهندستها الوراثية، فهل يمكن لنا أن نعتمد على المثقف العربي، ونتجاوز هذه الأزمة التي تخنق الثقافة في الوقت الذي تضع أمامها المعلوماتية خيارات الفعل والتفاعل عالميا وتفتح البوابة على مصراعيها للانطلاق في الفضاءات المختلفة والمتعددة؟





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً