من قصيدة للشاعر العربي المناضل مظفر النواب «إلهي كل الاشياء رضيت، سوى الذل، وان يوضع قلبي في قفص في قصر السلطان، وقنعت يكون نصيبي كنصيب الطير، ولكن سبحانك حتى الطير لها أوطان، وتعود اليها، وانا مازلت اطير، فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر سجون متلاصقة، سجان يمسك سجان». عندما نبدأ في تعلم اول حروف الابجدية ونحاول تحريك لساننا العربي المبين، نشرع في تلمس اولى خطوات الوطن، نتعرف على طرقاته وتضاريسه، ثم نطلق العنان لمخيلتنا كي ترسم له اجمل الخرائط، وتعزف له أحلى الالحان على اوتار قلوبنا.
حب الوطن ليس كغيره من الاشياء التي نعشقها ونحبها، فهو من النوع الذي لا يبلى ولا يشيخ، وهو من النوع الذي لا يحتاج إلى معلم، ولا يحتاج إلى دليل او مثال يحتذى. ومن المؤكد ان كل إنسان يحب وطنه على طريقته، وفق اسلوبه وافكاره ومعتقداته ايضا، بعضنا يخلط بين حب الوطن وحب الاهل والاصدقاء، بعضنا يخلط بين حب الوطن وحب الطائفية والانتماء، بعضنا يخلط بين حب الوطن وحب الله والدين، بعضنا يخلط بين حب الوطن وكل ما سبق من دون تفريق، لكنه في لحظة معينة يجد الوطن يتجسد أمامه في صورة الحلم الذي يتمناه ويتطلع إليه.
ومن المؤكد ان كثيرين لم يكتشفوا مدى حبهم لأوطانهم، ربما لأنهم لم يفكروا في ان يختبروا معنى حب الوطن، وربما لأنهم لم يفارقوه مطلقا، وربما لأنهم لم يتذوقوا طعم الغربة داخل أو خارج الوطن، بمعنى آخر هؤلاء الذين لم يكتشفوا مدى حبهم لوطنهم ربما لم يخضعوا للامتحان... لذلك نجدهم لا يعبأون ولا يعتريهم اي نوع من الوهج والمرار عندما تعزف اناشيد الوطن.
الذين يعرفون معنى الأوطان هم أولئك الذين ذاقوا مرارة السجن والابعاد والتغريب عن وطنهم قسرا، أولئك الذين سقطوا دفاعا عن كرامة انسان بلادهم ودفاعا عن حقوقه في الحياة الكريمة، أولئك الذين كان يحرقهم الحنين والشوق إلى حضن الوطن الدافئ وهم يجوبون بلاد العالم من ركن إلى ركن، يقتلهم البرد والصقيع والوحشة، وأحيانا يقتلهم الحر والهجير والوحشة ايضا، هؤلاء الذين كانوا يرسمون الوطن لأطفالهم الذين ولدوا في المهاجر والمنافي، أولئك الذي قدموا أرواحهم على مذابح الحرية في بلادنا.
هؤلاء هم الذين يمثلهم مظفر النواب في قصيدته وهم أكثر من يعرف الوطن، هم أصدق من يعبر عن الوطن، لذلك نراهم يتمايلون وتترقرق الدموع في مآقيهم عندما يعلو نشيد الوطن.
في المؤتمر العام لـ «جمعية العمل الوطني الديمقراطي»، كان حضور الوطن طاغيا على الجميع، كثير ممن حضروا ذاقوا مرارة الاغتراب والغربة، كثير منهم ذاق ضيق السجن وقسوة السجان، كثير منهم عرف المنافي وتحاشى الوقوع في قبضات اصحاب العيون الجاحظة وهي تطارده من مدينة إلى اخرى، بعض من كان حاضرا فقد رفيقه في الدرب، بعضهم صبغ أصابعه بدماء شهيد خر معه في الزنزانة تحت التعذيب، بعضهم نظر إلى كل شهداء الوطن فاحتسبهم اشقاءه ورفاقه، بعضهم تذكر كل سجناء الرأي والضمير فاعتبرهم اخوته وأخواته الذين حملوا أرواحهم على راحات أياديهم.
جميع الذين ضحوا وناضلوا من اجل الحرية والاصلاح والديمقراطية كان حضورهم في مؤتمر «جمعية العمل الوطني الديمقراطي» ملموسا، ولأن من بين الحضور من اعتاد تحمل الألم في حب الوطن ولأن من بينهم من دأب على زراعة الأمل والايمان الراسخ بانتصار الحق ولو بعد حين... كان الوطن حاضرا في النشيد.
حين أعلن عريف الحفل كريم محسن مشاركة اشبال وشباب جمعية العمل في حفل افتتاح المؤتمر بتقديم نشيد الوطن... اهتزت مشاعر كثير من الحضور، وعندما اطلقت العصافير والبلابل سراح حبالاتها الصوتية كان النشيد أروع من ان يوصف.
«وطني أوال وطني الشذي الذي قد غردت له الطيور، وسجل التاريخ اسماء له فوق السماء، في النخيل وفوق امواج البحار. يا تراب الغد الخصيب، يا شمسنا لن تعرفي المغيب، عندما ننتصر، وتضحك الطيور في موسم الربيع. امي ويا قبلتي في الحياة، سأحميك من غالة المعتدي، وادفع عنك جيوش الطغاة وأعطيك يدي. إننا نفديك ارواحنا، إننا نفديك ارواحنا، لنوقد الامل ونسقيك الدماء، فأنت حبنا، فأنت حبنا».
كلمات صاغها شاعر مرهف الحس، عانى الغربة والاغتراب وتشبث بالوطن والتراب فعاد اكثر شبابا حينما اعيدت الحياة إلى كلماته التي كتبها منذ اكثر من ربع قرن عندما كان طالبا في دولة الكويت، انه الشاعر المبدع احمد العجمي الذي عرف كيف يختزل حب الوطن في بضع كلمات لحنها على أوتار العود فنان عجن بحب الوطن وذاب في عشقه وجنونه حد الهيام منذ ان كان طالبا في دولة الكويت وحتى الآن، إنه فنان البحرين الرائع خالد الشيخ، كم كانت هذه الاناشيد معبرة عن آمالنا وأمنياتنا وأحلامنا الكبيرة عندما كنا طلابا على مقاعد الدراسة نتذوق الغربة ونقتات بالأمل. هل سمعتم بالانشودة الاخرى التي أبدعتها الغربة عن أوال ايضا؟
«أوال أحييك فلتسلمي، ما عشت يا ام لن تظلمي، دمي يا بلادي وما في فمي، نداء يحييك ملء الفم. أنا بعض ما في ثراك الطهور، ومن ذا إلى الأرض لا ينتمي، حنيني إلى الموت ان جاءك عدو تخيل ان تهزمي، أوال احييك فلتسلمي».
ثم نلتقي في الغربة مرة أخرى مع انشودة...
«سنمضي، نقسم بتربتك أوال، سنمضي مهما يطول بنا المطال، ونمر من درب الحياة سنمضي، نقسم بتربتك أوال سنمضي. سنشق دربا، بالدم كان او الحديد، رغم التآمر سنظل كالسد المنيع، تاريخنا سيظل نبراسا منير، وسنمضي نقسم بتربتك أوال سنمضي. سننتقم من كل جلاد بغيض سننتقم لكل انسان بريء، لأجل من ضحى لأجلك أوال سنمضي، نقسم بتربتك أوال سنمضي».
أي قسم هذا الذي أبدعه احبتنا في لحظة تجل وهيام بالوطن فكان درسا في الوطنية والالتزام بإزاحة كل جلاد عن ظهر ابناء شعبنا الذي عانى طويلا، وأي أوال هذه التي زرعت في احاسيسنا ووجداننا حتى لم نعد نفرق بينها وبين انفسنا وانفاسنا. ربما لم نكن نشعر في تلك الأيام بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمات، ربما كنا نرددها بدافع من الشوق والتعزي والسلوى عن فراق أهلنا وأحبتنا وبلادنا، لكنها ومن دون ان نعطي للموضوع اهميته التي يستحقها، كانت تغرس فينا الوطن وحب كل من فيه فكنا ننشد...
«بلادي أوال فدتك النفوس، نفوس الضحايا، شموع النضال، كم ارتوى ترابك بدمائهم يا بلدتي. شق الرفاق لنا طريق... وجاسم أكد المسيرة، هذه بدايات الطريق... وخزات اشواك كثيرة.... سنواصل حتى نحيق الباطل. قسما بمن يضمه ترابك ومن يعاني في السجون، سنواصل الدرب الطويل، لأجلك رغم المنون، سنواصل حتى نحيق الباطل».
كنا نهيئ انفسنا لدرب طويل لم يكن معلوما على وجه الدقة متى نصل إلى نهايته، نعرف ان شهداء آخرين سيسقطون كما سقط جاسم (الشهيد محمد غلوم). كانت الانشودة تعدنا بأن تلك هي بدايات الطريق... وان ذلك لم يكن سوى وخزة من وخزات الطريق لكنها كانت تطمئننا بأننا سنتمكن من هزيمة الباطل في النهاية. اي مدرسة وطنية تلك الذي ضمنا فيها الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، واي تهذيب وتشذيب للنفس ذلك الذي ربينا عليه عندما كنا ننشد جميعا...
«طريقنا أنت تدري شوك ووعر كثير، موت على جانبيه لكننا سنسير إلى الأمام، إلى الأمام... إلى الأمام سنسير. بعزم الرجال وروح الشهيد، سنمضي ونقسم ألا نحيد، سنمضي إلى غاية حرة، لنطلع فجر انتصار جديد. طريقنا أنت تدري شوك ووعر كثير موت على جانبيه لكننا سنسير، سنمضي سنمضي إلى ما نريد، سنمضي لنبني أوال جديدة، سنمضي سنمضي إلى ما نريد، وطن حر وشعب سعيد، كانت أهدافنا واضحة من دون ريب ومن دون تشويش وطن حر وشعب سعيد»
ولأننا كنا جمعيا واثقون بأن فجرا جديدا سيأتي حاملا معه البشر والسعد فقد كنا نحذر أنفسنا وغيرنا من الصمت والركون إلى الخوف وكنا نردد جميعا...
«الصمت عار، الخوف عار ونحن عشاق النهار، نبكي... نحب... نحارب الاشباح... نحيا في انتظار. إن أجدبت سحب الخريف، وفات في الصيف القطار، سحب الربيع ربيعنا... حبلى بأمطار كثار، ولنا مع الجدب العقيم... محاولات واختبار... الصمت عار... الخوف عار. سنظل نحفر في الجدار، إما فتحنا ثغرة للنور... أو متنا على وجه الجدار... لا يأس تدركه معاولنا، ولا ملل انكسار... الصمت عار، الخوف عار»
هكذا كانت دروس الوطنية تتوالى لتنمو شجرة حب الوطن ويخضر عودها بعيدا عن الطائفية وبعيدا عن الأنانية والمصالح الخاصة... كلنا أبناء هذا الوطن... نحلم له بغدٍ مشرق بهيج تغرد فيه الطيور وتصدح فيه البلابل في سماء من الحرية والانعتاق، وكلما عادت بنا الذكرى إلى أيام تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة البحرين الذي ولد في الغربة... واشتد عوده هناك تحسبا للعودة مع المنفيين والمبعدين فإذا بالموت يباغته في الغربة أيضا ليذهب شهيدا عظيما في سبيل الوطن، وفي هذه الأيام تمر علينا ذكرى تأسيسه التي كنا نحييها دائما ونردد...
«ذكرى ميلاد اتحادنا، ذكرى عزيزة على قلوبنا، ذكرى النضال وعهد الصمود، نشق الطريق لأهدافنا، سيبقى محمد ويبقى سعيد نجوما مضيئة في سمائنا...».
ولم يكن محمد وسعيد اللذان تغنينا بهما سوى محمد غلوم وسعيد العويناتي، الشهيدان اللذان ترعرعا في كنف الاتحاد الوطني لطلبة البحرين وعندما عادا إلى الوطن اغتالتهما أيادي الغدر والخيانة فسقطا دفاعا عن كرامة الانسان وحقه في حياة حرة وكريمة، لذلك كنا دائما وسنظل نقول:
«محمد غلوم اشتعل شمعة ينادي، عاش الكفاح عاشت جماهير بلادي. سعيد بالأمس البعيد... قرر دوما، روحي نذرته للذي... يعيش ظلما. محمد بونفور البطل نعم الرجال، قد عانق الأرض وراح الدم سال. راح الشهيد يكتب بدم، عاشت بلادي من الألم، يروي الأمل اللي بذل روحه فدانا... روحه فدانا، يا جماهير الشعب حيوا معانا، كل شهيد قدم الروح فدانا...». نعم تحية اجلال واكبار إلى كل الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداءنا... فداء للوطن... من أجل ان نتعلم حب الوطن ونحفظه عن ظهر قلب... لذلك جاءت الاناشيد تبجلهم وتضعهم في مصاف النجوم. ولأن جمعية «العمل الوطني الديمقراطي» هي من فتح الجرح وعزف على أوتار القلب حب الوطن باعادة الحياة إلى أنشودة «وطني أوال... الذي قد غردت له الطيور...» فإنه لم يكن بمستغرب أن تقوم هذه الجمعية بإصدار تقويمها السنوي الأول للعام 2003 وترصعه بصور وأسماء شهداء الوطن من دون أي تمييز... أو تحيز... لذلك فإن هذه الجمعية مطالبة قبل غيرها من الجمعيات السياسية الأخرى أن تنفض الغبار عن أناشيد وأغاني الوطن... وتبث فيها الروح من جديد، فهي بالاضافة إلى كونها توثيقا حيا لمرحلة حساسة من تاريخ نضال شعبنا، فإنها لاتزال تنبض بالحياة والقدرة على أن تكون البديل الوطني لأغاني (الهشك بشك) المنتشرة في عالم اليوم... والدعوة موجهة أيضا إلى الفنان المبدع خالد الشيخ للقاء مجددا مع شعراء مخلصين كتبوا له القصائد الأولى في حب الوطن... فألَّف وعزف لنا ألحانا ظلت خالدة في ذاكرة أجيال لن تنسى أبدا.
شهادة أخيرة، حين أنشد أطفال وشباب جمعية العمل... سافر كثير ممن حضروا في ذلك الصباح إلى البعيد، إلى المنافي والسجون، وغاصوا في التاريخ، لكنهم سرعان ما عادوا، يمسحون دموعهم ويغنون مع المنشدين... «وطني أوال، وطني الذي قد غردت له الطيور»... أي حب هذا الذي يجمعنا ويجذبنا إلى هذه الأرض الصغيرة... الكبيرة... سوى حب الوطن والشعور بالانتماء.
إنها لفتة كريمة من جمعية «العمل الوطني الديمقراطي»... تحمل في طياتها كثيرا من الرسائل والمعاني... فتحية إلى اولئك الذين لايزالون يحملون المشعل لينيروا به طريق الوطن والأمل
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 157 - الأحد 09 فبراير 2003م الموافق 07 ذي الحجة 1423هـ