يقال: «إذا عُرف السبب بطل العجب». كان العجب يخيم على دول العالم في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، ومصدر العجب كان رفض الولايات المتحدة وبريطانيا الكشف عن مصادر معلوماتهما عن برنامج التسلح العراقي. منذ حوالي ستة أشهر ودول العالم، وتحديدا الكبرى، تطالب واشنطن ولندن بتقديم معلومات عن سبب اتهامهما بغداد بمخالفة القرارات الدولية وإعادة بناء ترسانة أسلحتها المتعلقة بالصواريخ وإنتاج القنابل الخطرة (البيولوجية، والكيماوية) وكانت تقابل الطلبات بالرفض بذرائع شتى، منها حماية مصادرهما من الملاحقة والانتقام.
وفي ضوء «تقرير الحقائق» الذي عرضه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير أمام البرلمان (مجلس العموم) في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي وتبنته ادارة البيت الأبيض وقادت على أساسه دول العالم إلى استصدار قرار 1441 الذي قضى بارسال فرق التفتيش إلى العراق بحثا عن «أسلحة الدمار الشامل» التي أتى على ذكرها «تقرير الحقائق». وحين قدم العراق تقريره الهائل (12 ألف صفحة) إلى كبير فريق التفتيش استولت واشنطن على نسخته الأصلية بذريعة أنها لا تريد أن تتسرب معلوماته إلى دول مجلس الأمن (حتى لا تستخدمها في تصنيع صواريخها وقنابلها) واعادته مختصرا (ناقص 3 آلاف صفحة) واحتفظت هي بنصه الأصلي، قالت إن تقرير العراق ليس كافيا ونظام بغداد يناور ويكذب ولايزال يخفي الكثير من المعلومات والأسرار.
وحين استفسرت الدول الكبرى عن سبب اتهام بغداد بالكذب والمناورة ردت واشنطن بأنها تملك معلومات في غاية الدقة ولا تريد أن تقدمها إلى فرق التفتيش للتأكد من صحتها حتى لا تعرف المصادر ويقوم النظام العراقي بالانتقام من الجهات التي سربت المعلومات.
أوقع الموقف الأميركي - البريطاني دول العالم، وتحديدا الكبرى، في حيرة. فهي مكرهة على الموافقة على معلومات من دون أدلة، وهي تتعرض لضغوط تهدد العلاقات الأميركية - الأوروبية بالتراجع، وتثقل الاتحاد الأوروبي بالمزيد من التوتر وعدم الثقة لأنها تطالب بكشف مصادر «تقرير الحقائق» الذي في ضوء معلوماته سيذهب العالم إلى حرب مدمرة.
حتى تقرير (خطاب) وزير الخارجية الأميركية كولن باول كان أقرب إلى الفضيحة حين أطلق جملة معلومات من دون أدلة متهما العراق بأنه يتجه نحو تصنيع قنبلة نووية وطالب الأمم المتحدة بالإسراع في تغطية الموقف الأميركي. وحين اعترضت الدول الكبرى، وتحديدا فرنسا، مقترحة تقديم المزيد من المعلومات واعطاء فرصة أخرى لفرق التفتيش للتأكد من صحة ما قاله خطاب باول ردت واشنطن بقساوة على باريس وهدد وزير دفاعها دونالد رامسفيلد بحرب طويلة تعيد ترتيب خريطة الشرق الأوسط وحرمان فرنسا من نصيبها وحصتها.
الآن وبعد ان نشرت لندن ملف الحقائق على شبكة الإنترنت عرف سبب إخفاء أميركا وبريطانيا مصادر معلوماتهما. فالحقائق السرية تبين انها مقتبسة حرفيا (بالأخطاء الطباعية واللغوية) من أطروحة طالب عراقي (إبراهيم المرعشي) تقدم بها للتخرج في الجامعة في العام 1990.
الفضيحة ليست هنا. الفضيحة أن المتحدث باسم الحكومة البريطانية اعتذر إلى الطالب لأنه «لطش» معلومات «تقرير الحقائق» من دون ذكر اسمه وبحثه بينما الواجب يقضي اعتذار لندن ـ واشنطن إلى دول العالم وتحديدا الدول الكبرى في مجلس الأمن وفرق المفتشين في العراق التي قيل لها إنهما تملكان معلومات خاصة لا تريدان الكشف عن مصادرها حتى لا تتعرضا للملاحقة والانتقام.
الفضيحة أيضا ليست هنا. فالمعلومات الآن عرف مصدرها وهي قديمة جدا تعود إلى مرحلة ما قبل 1990 بينما تقرير العراق الذي رفعه إلى مجلس الأمن هو الأحدث والأدق.
الفضيحة أن إدارة البيت الأبيض مصرة بقيادة أشرار الحزب الجمهوري على خوض حرب «دمار شامل» تعتمد على معلومات غير مؤكدة ومصادر مجهولة تم السطو عليها من أطروحة طالب عراقي تقدم بها في العام 1990 لنيل شهادته الأكاديمية.
الآن عرف السبب وبطل العجب. فالسرية التي أحاطت واشنطن بها مصادر معلوماتها يعود سببها إلى خفتها وضحالتها. وشر البلية ما يضحك
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 157 - الأحد 09 فبراير 2003م الموافق 07 ذي الحجة 1423هـ