أصدرت الحكومة البريطانية تقريرا قبل عدة أيام يتكون من 16 صفحة، واعتمده رئيس الوزراء طوني بلير، وأشار إليه وزير الخارجية الأميركي كولن باول، باعتباره أحد الأدلة «الدامغة» التي تثبت تورط العراق في امتلاك أسلحة الدمار الشامل وعزمها على مخالفة الأمم المتحدة في كل ما تقوم به.
غير أن الغريب في هذا التقرير «الخطير» أنه كان نسخة من بعض ما كتبه أحد طلبة العلوم السياسية قبل 12 عاما واسمه إبراهيم المرعشي، بينما كان بقية التقرير من مواد صحافية نشرتها مجلة «جينز» المتخصصة في الشئون العسكرية.
قرابة المئة عام تفصل بين تقارير «لوريمر» البريطانية والتقرير الذي أصدرته الخارجية البريطانية لتؤسس عليه مشروعية الحرب الأميركية على العراق. ولكن شتان بين تقارير لوريمر وتقارير الخارجية الحالية، إذ كانت الأولى تمثل قمة العظمة البريطانية وسيطرتها ونفوذها وفهمها للعالم، بينما تقرير الخارجية يمثل قمة التبعية للإدارة الأميركية.
عندما كتب لوريمر تقاريره الدقيقة والمبدعة كانت بريطانيا ترفض الاعتراف بالولايات المتحدة الأميركية، فحتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر كانت بريطانيا تعين وزيرا لها (وليس سفيرا) للشئون الأميركية، وكانت ترفض حضور أميركا أي مؤتمر يجمع الدول المختلفة. وردا على ذلك كان الأميركان يكرهون البريطانيين ويعتبرونهم مستعمرين حاولوا سلب حرياتهم. وكان الأميركان يخالفون البريطانيين في كل كل شيء حتى في الأمور الاعتيادية. فمثلا الأميركان لم يكونوا يلعبون كرة القدم المعروفة واخترعوا لهم كرة قدم تحتوي على قوانين مقلوبة لكرة القدم التي يقال ان الإنجليز هم الذين ابتكروها. والأميركان اختاروا السياقة على يمين الشارع مثل ألمانيا وذلك مخالف لما اعتمدته بريطانيا في السياقة على الجانب الأيسر من الشارع. الأميركان غيروا قوانين «الكريكت» واستبدلوا بها «البيس بول» ، والأميركان يطفأون الضوء بضغط الزر الى الأعلى خلافا للنظام الذي استخدمه البريطانيون في ضغط الزر الى الأسفل لإضاءة النور... الخ.
ولم يكن الأميركان سينضمون إلى التحالف مع البريطانيين لولا غباء الألمان وتعرضهم لخطوط التجارة البحرية الأميركية، ولم يكن الأميركان ليدخلوا في تحالف استراتيجي مع البريطانيين لولا السياسة التي اتبعها وينستون تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية. وهكذا استمرت العلاقة الاستراتيجية لاحقا ماعدا فترة بسيطة عندما أغضب حزب المحافظين بيل كلينتون، إذ قام الحزب البريطاني بمساندة الحزب الجمهوري الأميركي ضد الحزب الديمقراطي. وعندما فاز كلينتون (من الحزب الديمقراطي) بردت العلاقات قليلا، لتعود مرة أخرى مع فوز طوني بلير الذي قلب كل سياسات حزب العمال وأعاد ترتيب السياسة الخارجية البريطانية لتتلاءم وتتطابق مع سياسة الولايات المتحدة في أكثرية القضايا الاستراتيجية.
الأميركان يتجسسون على كل الناس وكل الدول ما عدا بريطانيا التي يرتبطون معها بحلف أمني واستخباراتي وعسكري استراتيجي على جميع المستويات.
وليس هذا مستغربا إذا علمنا أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تأسست بالاستعانة بالخبرات الجاسوسية البريطانية (إم - آي - 6) وان لدى بريطانيا أجهزة تنصت هي الفريدة من نوعها ومركزها مدينة تشلتنهام. وهذه الأجهزة تتنصت على المكالمات المهمة في جميع أنحاء المعمورة ولاسيما المكالمات بين الحكام ومرؤوسيهم المدنيين والعسكريين، وأميركا لديها صلاحية كاملة لاستخدام ما تشاء من هذه التسهيلات. مع كل هذه الإمكانات، ومع كل هذا التاريخ ومع كل هذه الخبرة تخرج علينا الخارجية البريطانية بتقرير يهز من مكانة بريطانيا ويوضح أنها متخبطة و«مستعجلة» في إصدار أية وثيقة من أجل اللحاق بالركب الأميركي الغازي لمنطقة الشرق الأوسط.
وهذا أيضا يرجعنا الى الفترة التي كانت فيها بريطانيا في قمة العالم، عندما حرضت العرب على الثورة ضد الدولة العثمانية وصدقها العرب وانتفضوا ضد اخوانهم المسلمين الأتراك، ولم ينتبه العرب إلا وفلسطين قد استلبت منهم وسلمت إلى الحركة الصهيونية، ودولهم قد تم توزيعها بعد لقاء بين مسئولين بوزارتي الخارجية البريطانية (سايكس) ووزارة الخارجية الفرنسية (بيكوت). وانهارت العلاقة الحميمة بين العرب وبريطانيا وأصبحت الأخيرة مضرب مثل للخداع والمكر وكسر الوعود، ومازالت هذه الأفكار هي التي تسيطر على العقل العربي.
وهكذا بعد مئة عام تعود الأمور الى ما كانت عليه مع اختلاف بسيط. فالقيادة هذه المرة والوعود الأميركية مشابهة أيضا لما كانت عليه الوعود البريطانية قبل مئة عام. الأميركان يتحدثون عن محاربة الدكتاتورية العراقية ويعدون بإحلال الديمقراطية بدلا منها، تماما كما وعدت بريطانيا العرب بالحكم الذاتي بعد الثورة على الدولة العثمانية.
ولكن هناك فرق بين الأمس واليوم. بالأمس كان البريطانيون أكثر حكمة في التعامل مع جميع الأطراف، وكان البريطانيون يستخدمون جانبي عقولهم. أما الأميركان فيستخدمون جانبا واحدا من عقولهم (المخ له جانبان في الرأس) ويستخدمون السلاح بدلا من الجانب الآخر للعقل.
البريطانيون اتفقوا سرا مع اليهود (وعد بلفور) ولم يعلم العرب بذلك الوعد إلا بعد الثورة البلشفية عندما كشفت موسكو ذلك الاتفاق. أما جورج بوش فهو لا يخفي شيئا بل انه يصرح علانية بأنه لا يقرأ الصحف في الوقت الذي صرح فيه بأنه معجب بكتاب الإرهابي ارييل شارون عن «الضربة الاستباقية» للعرب، وانه قرأه عدة مرات!
كان البعض يعوّل على «الحكمة» البريطانية لتهدئة المارد الأميركي المتخبط، ولكن أي أمل يبدو أنه يتبدد مع إصدار تقرير غير حكيم وغير أمين من ناحية النقل
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 156 - السبت 08 فبراير 2003م الموافق 06 ذي الحجة 1423هـ