العدد 155 - الجمعة 07 فبراير 2003م الموافق 05 ذي الحجة 1423هـ

زوجة الجاسوس تخرج عن صمتها

كان جورج تيمبل أحد ضباط الاستخبارات المضادة البريطانية (أم 16) الناجحين الأفذاذ. ولكن عندما أصبح مريضا وجد نفسه في غياهب النسيان. استاءت زوجته (انثيا) للغاية من طريقة علاجه، الأمر الذي دفعها إلى تحطيم شفرة الصمت وسط زوجات الخدمة السرية. ونجدها هنا باحت إلى ديفيد لييه بلمحة غير مسبوقة في حياة جاسوس.

تزوجت انثيا من جاسوس. كان زوجها جورج رئيس الاستخبارات المضادة البريطانية في كولومبيا، وهي إحدى دولتين فقط في العالم يحمل موظفو السفارة البريطانية فيها أسلحة روتينيا.

كانت تجلب الخضراوات في سيارة جيب شيروكي كبيرة مدرعة. وقبل ذلك، في لندن، كانت تكذب على صديقاتها عند بوابات المدرسة بشأن أين كان زوجها. ولكن يتطلب دور انثيا باعتبارها زوجة للاستخبارات (ام 16) سرية أكثر وقيودا أمنية. تعاملت في مسيرة زواجها الطويلة من عميل سري كبير، مع مخبرين وعملاء كثر، وقادت سيارات فرار، وذات مرة قامت بدفن مخبأ دولارات في غابات ألمانيا الشرقية، كانت، كما تقول، كأنها تنتمي إلى ناد خاص ومثير.

كان زوجها جورح تيمبل أحد ضباط الاستخبارات المضادة (ام 16) المشهورين وذوي الخبرة. في رسالة خاصة، تحدث الرئيس الحالي الاستخبارات (ام 16)، السير ريتشارد ديرلوف، عن عمل تيمبل المتفوق ومتناهي الدقة. وكان مشاركا في كثير من الطفرات الاستخباراتية الحساسة في السنوات الحديثة.

ولكن في ليلة من ليالي أغسطس/آب الماضي، كانت انثيا تمشي بجهد وهي منهكة في شارع بيمليكو في وسط لندن، محاولة تسليم خطاب باليد إلى ديرلوف في رئاسة (ام 16) في ثيمز.

كانت تسأل عن مساعدة لزوجها، الذي أصيب بداء السرطان وقد ساءت صحته ما اضطر الأسرة إلى العودة فجأة إلى لندن. وعلى رغم انها سمعت انه عندما تسوء حال المرء، ترمي (ام 16) رجالها في سلة المهملات، لكنها لم تصدق ذلك. الآن وجدت نفسها وحيدة وأحست بالإهمال.

ذهبت انثيا للمرة الأولى في العام 1973 إلى قلعة مونكتون، أرض التدريب الأمني العالي بالقرب من بورتسماوث على الشاطئ الجنوبي لإنجلترا. وهي بداية مسيرة زوجها في الجاسوسية، إذ دُعيت في نهاية فصل دخول ضابط استخبارات ومدته ستة أشهر، ولبعض التدريب الخاص بها. كانت تعرف قليلا عن «الأصدقاء» أي رجال (ام 16) بواسطة وزارة الخارجية إذ تزوجت شقيقتها من دبلوماسي.

في الثمانينات، قضت عائلة تيمبل قرابة ثلاث سنوات في برلين الشرقية مع رب الأسرة تحت غطاء وزارة الخارجية. كان الأبناء يذهبون يوميا إلى مدرسة الجيش البريطاني في برلين الغربية. ذات مرة وجدت انثيا نفسها في غابة، تحاول دفن نقود باعتبارها مبلغا مدفوعا إلى عميل... «انها حقيبة يدوية مليئة بالدولارات، كنت أرتدي معطفا ومعي مالج ألمنيوم. جثمت على الأرض متظاهرة بشيء ما. ثم جاء زوجان معهما كلب أسود صغير! كانا يتصببان عرقا، إذ ظنّا أننا تفجرنا، والعميل من المحتمل أن يكون عميلا مزدوجا». انه مستحيل ان يجند عملاء تحت رقابة كثيفة من ذلك النوع، إذ قضى الزوجان غالبية الرحلة يقومان بالقليل بينما يُقصان الطرق للتهرب من المكتشفين - انثيا هي السائق - ويأخذان الأطفال في رحلة لاستكشاف مواقع صناديق الرسالة الميتة.

تقول انثيا: «كان خوفي باستمرار أن يأتي الأطفال إلى المنزل من المدرسة ولا يوجد أحد هناك»، وبالعودة إلى لندن، تفرض السرية مزيدا من التوترات. بدأ تيمبل يسافر حول العالم متظاهرا بأنه سائح أو رجل أعمال، ويقوم بتجنيد عملاء جبهة الاتحاد السوفياتي من الدبلوماسيين والمتخصصين الفنيين في دول العالم الثالث، الذين يحددون بمهارة بواسطة محطة (ام 16) المحلية باعتبارهم مخبرين محتملين. وكان يحتفظ بجواز سفر مزور في درجه في المنزل. كانت اختفاءاته المتكررة يصعب تفسيرها.

وتمت ترقية جورج إلى رئيس المحطة الخامسة (ام 16) القوية في بانكوك، وقد أُعلنت وظيفته للاستخبارات التايلندية (يعني ذلك انهم يعرفون هويته ويعتبر صديقا). من الناحية المهنية تعتبر الترقية انتصارا. إذ قام بتجنيد عدد كبير من المخبرين وأرسل إلى لندن استخبارات مفيدة في نشراته CX اسم شفرة يمنح للمنشورات الاستخباراتية السرية في جهاز (ام 16).

تقول انثيا: «لقد منحه الغطاء دخولا مشرفا إلى كثير من الجاليات الأجنبية مثل المسئولين الهنود والصينيين».

وأضافت: «اعتدتُ أن أعد كثيرا من الحفلات لتوفير الجو الملائم. وكان يشار إليّ بالسيدة Ni في النشرة CX».

قام تيمبل بعمليات ضد صدام حسين، إذ كان مرتبطا بصفقات أسلحة رئيسية لتسيير حرب الخليج. وكانت الدولة (بريطانيا) ربما مركزا لنشاط الجيش الجمهوري الايرلندي. ولذلك جنّد تيمبل عملاء من الإيرلنديين هنا في منتجعات سياحية.

ولكن لازم النجاح الشخصي إحباط شخصي. كان على الأسرة ان تقطن خارج مجمع السفارة لأجل أن يزحف عملاء جورج خلسة ويصلون ليلا. ولأن جزءا من روتين «غطاء» (ام 16) تقليد رتب وضيعة ظاهريا، لذلك كان سكنهم متواضعا نوعيا، كما استبعدوا من كثير من وظائف السفارة المتألقة. وبالعودة إلى لندن، كانت مكافأة جورج هي ترقيته إلى معاون الرئيس العام لجهاز (ام 16) كما أشار إلى ذلك أحد زملائه. في هذه الفترة أصبح جهاز (ام 16) مشهورا ومعروفا، إذ وضع تحت أساس قانوني، وارتبط تيمبل بتحفظ بنواب البرلمان والصحافيين. كما حاول إقناع ضباط (ام 16) المتقاعدين بعدم كتابة ذكرياتهم. وكانت من واجبات عمله محاولة فرض السكوت على خائن (ام 16)، ريتشارد توملنسون. إذ ساعد تيمبل في تفاوض قرض 23000 دولار أميركي وعمل مع فريق سباق سيارات جاكي ستيوارت، في مقابل وعد بالصمت من توملنسون. ولكن الأخير غيّر رأيه وألّف كتابا مثيرا، دخل بسببه السجن نتيجة خرق قانون الأسرار الرسمية.

بعد ذلك سافر تيمبل مرة أخرى إلى الخارج، هذه المرة إلى كينيا. وعلى رغم ان نيروبي أقل أهمية من بريتوريا، لكنها تعتبر إحدى قواعد (ام 16) القليلة التي تركت في إفريقيا. وقد أعلنت وظيفته باعتباره رئيسا للمحطة لدى الاستخبارات الكينية، وخاض جولات من الاجتماعات الشخصية مع الرئيس موي كانت مركزا لإثارة عاصفة. عندما وصل تيمبل، كان (ام 16) اعترض المكالمات الهاتفية لأنصار بن لادن في الساحل الشرقي لإفريقيا، وكان على صلة وثيقة ومراقبة لعميل أسامة بن لادن في لندن (خالد الفواز)، الذي اشترى له هاتفا محمولا. تقول انثيا: «كنا نعلم ان شيئا ما سيحدث، ولكننا لا نعلم ما هو».

في أغسطس/ آب 1998، دمر انفجار قنبلة ضخم شاحنة السفارة الأميركية، وأدى إلى مقتل 213 شخصا. ووصل فاكس يتباهى بالانفجار إلى عميل أخبار بالقرب من منزل الفواز في لندن. تم الحصول على رقمه الأصلي أخيرا بواسطة (ام 16) من خلال خط الهاتف في باكو، إلى فندق في نيروبي. إذ تم القبض على محمد العواهلي وهو أحد المفجرين وتم تسليمه إلى الولايات المتحدة واعترف بمشاركته العام الماضي، وهذا يعتبر نجاحا آخر مهما لجورج تيمبل.

تشعر انثيا مع هذه العمليات جميعها بأنها جزء من فريق العمل، إذ يعتمدون على الزوجات ان يكنّ متعاونات، راغبات وناشطات.

فيما يخص جيلي، تقول انثيا: «إن غالبية الزوجات مشتركات بفاعلية في هذه العمليات، وأرى نفسي تماما أنني زوجة ضابط خدمة الاستخبارات السرية، وأعتقد انها عملنا. يجب علينا التظاهر وتمثيل أدوار في كل الأوقات».

ثم جاء الدور الأخير لجورج من خلال عملية كبيرة ضد المخدرات، قامت بها بريطانيا في كولومبيا منذ العام 1993. تتعاون فرق من زبائن ضباط الارتباط المختصين بالمخدرات مدعومة بالقوات البريطانية الخاصة مع (ام 16) لاختراق نبلاء الكوكايين، الذين يصدرون شحنات مهربة إلى أوروبا، ويتابعون المراكب السريعة بوسائل مطاردة معقدة ومن ثم اعتقال المهربين.

ولكن لم يكن دور وظيفة بوجوتا مشهورا. لأن عمل (ام 16) هنا شبيه بعمل الشرطة بعد الحرب الباردة، وكما قال عنه أحد المعنيين: «ليس عملا بطوليا كلية». وكما تقول انثيا: «لا أحد يرغب في الذهاب إلى هناك لأنه مكان دموي!».

فو بوجوتا، حصل جورج، كما قال عنه مسئوله في الخدمة السرية، على «نجاحات خارقة ضد تجارة المخدرات تحت ظروف أمنية وعملياتية صعبة لم تواجه الاستخبارات في أي مكان في العالم».

وفي عمر (54 عاما) ، وقبل عام واحد من تقاعده بالمعاش، أصبح جورج مريضا في مارس/آذار 2001، وتم تشخيص مرضه بأنه يعاني من سرطان القناة الصفراوية. كان عازما على العودة إلى بوجوتا لتكملة مهمته بعد ثلاثة أشهر من العلاج في لندن. إذ اكتشف في كولومبيا من خلال اعتراض مكالمات أعدت بواسطة الشرطة المحلية، ومن الاستخبارات المكتسبة بواسطة محطة (ام 16) في كوبا ان فريقا من الجيش الجمهوري الايرلندي وصل إلى كولومبيا لتدريب عصابات التمرد «الفارك». وكان آخر عمله يتمثل في إعطاء أوامر إلى نائبه لترتيب اعتقال رجال الجيش الجمهوري.

ومرة أخرى عاد إلى لندن تحت وطأة المرض الخطير، وأصبحت العائلة مصدومة، ومرعوبة من انعدام المساعدة من (ام 16). وانتهى الأمر ان وزارة الخارجية بصدد ترتيب أية مساعدة على أساس العناية الطبية أو المالية، ولكنها لم تكن المساعدة المتوقعة. ووجدت عائلة تيمبل نفسها تشترك في غرفة مفردة في فندق بالقرب من المستشفى التي يتعالج فيها جورج، لأن وزارة الخارجية لم تدفع لغرفة مزدوجة في الفندق. وأخبرت زوجته ان المخصصات الخارجية ستقتطع منه وفجأة وجدت نفسها في حاجة مالية. وعندما وجدت الأسرة أخيرا شقة بالقرب من المستشفى، أخبرت انها يجب ان تغادر حالا، لأن (ام 16) تجازو موازنته كثيرا. لا توجد رعاية صحية خاصة متاحة، حتى انهم ليس لديهم طبيب بريطاني عام، وأخبرت الأسرة انها لا تستطيع الحصول على خدمات ممرضات الماكميلات الخاصة أو خدمات التكية. وكتبت إلى جهاز (ام 16) ووزارة الخارجية في يوليو/ تموز قائلة: «كيف تعتقدون أننا نقيم؟ كيف ترون أنني أجوب حول عملاء المقاطعة في الاسبوعين المقبلين، بيما جورج يحتاج باستمرار إلى مساعدة؟ تشمل تلك المساعدة اعطاءه حقن ثلاث مرات يوميا، جرعات غير محدودة من الدواء في أوقات مختلفة، القيام بتحميمه، ملاطفته حتى يأكل، ومراقبة أي أعراض عليه».

عموما، تجزم انثيا ان زوجها تمت معاملته بإهمال، وانها أفشت الأسرار حتى لا تتم معاملة أسرة أخرى بالمثل، وحتى يتم اعطاء مديري شئون الموظفين في جهاز (ام 16)، قليلي الخبرة تدريبا مهنيا ملائما.

وأضافت أخيرا: «لا أوصي الشباب بالانضمام إلى (ام 16)، لأنك عندما تحتاج إليهم، يهملونك، فقد كانت أيام زوجي الأخيرة جحيما قبل ان يُسلم روحه ويغادر الحياة»

العدد 155 - الجمعة 07 فبراير 2003م الموافق 05 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً